خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَإِن تَوَلَّوْاْ فَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ مَوْلاَكُمْ نِعْمَ ٱلْمَوْلَىٰ وَنِعْمَ ٱلنَّصِيرُ
٤٠
-الأنفال

روح المعاني

{ وَإِن تَوَلَّوْا } ولم ينتهوا عن كفرهم / { فَٱعْلَمُواْ أَنَّ ٱللَّهَ مَوْلاَكُمْ } أي ناصركم فثقوا به ولا تبالوا بمعاداتهم { نِعْمَ ٱلْمَوْلَىٰ } لا يضيع من تولاه { وَنِعْمَ ٱلنَّصِيرُ } لا يغلب من نصره.

هذا ومن باب الإشارة في الآيات: { فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ قَتَلَهُمْ } تأديب منه سبحانه لأهل بدر وهداية لهم إلى فناء الأفعال حيث سلب الفعل عنهم بالكلية، ويشبه هذا من وجه قوله سبحانه: { { وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ رَمَىٰ } [الأنفال: 17] والفرق أنه لما كان النبـي صلى الله عليه وسلم في مقام البقاء بالحق سبحانه نسب إليه الفعل بقوله تعالى: { إِذْ رَمَيْتَ } مع سلبه عنه بِمَا { رَمَيْتَ } وإثباته لله تعالى في حيز الاستدراك ليفيد معنى التفصيل في عين الجمع فيكون الرامي محمداً عليه الصلاة والسلام لا بنفسه ولعلو مقامه صلى الله عليه وسلم وعدم كونهم في ذلك المقام الأرفع نسب سبحانه إليه صلى الله عليه وسلم ما نسب ولم ينسب إليهم رضي الله تعالى عنهم من الفعل شيئاً، وهذا أحد أسرار تغيير الأسلوب في الجملتين حيث لم ينسب في الأولى ونسب في الثانية، بقي سر التعبير بالمضارع المنفي بلم في إحداهما والماضي المنفي بِمَا في الأخرى فارجع إلى فكرك. فلعل الله تعالى يفتحه عليك: { وَلِيُبْلِىَ ٱلْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَنًا } أي ليعطيهم عطاء جميلاً وهو توحيد الأفعال، والمراد لهذا فعل ذلك { إِنَّ ٱللَّهَ سَمِيعٌ } بخطرات نفوسكم بنسبة القتل إليكم { عَلِيمٌ } [الأنفال: 17] بأنه القتل حقيقة وكونكم مظهراً لفعله { { وَأَنَّ ٱللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ ٱلْكَـٰفِرِينَ } [الأنفال: 18] لاحتجابهم بأنفسهم { إِن تَسْتَفْتِحُواْ } الآية، قيل فيها: أي تفتحوا أبواب قلوبكم بمفاتيح الصدق والإخلاص وترك السوي في طلب التجلي { فَقَدْ جَاءَكُمُ ٱلْفَتْحُ } بالتجلي فإنه سبحانه لم يزل متجلياً ولا يزال لكن لا يدرك ذلك إلا من فتح قلبه { وَإِن تَنتَهُواْ } عن طلب السوى { فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ } لما فيه من الفوز بالمولى { وَإِن تَعُودُواْ } إلى طلب الدنيا وزخارفها { نَعُدْ } إلى خذلانكم ونكلكم إلى أنفسكم { وَلَن تُغْنِىَ عَنكُمْ فِئَتُكُمْ } الدنيوية { شَيْئاً } مما لخاصته سبحانه { { وَلَوْ كَثُرَتْ } [الأنفال: 19] لأنها كسراب بقيعة { { يا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ أَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَوَلَّوْاْ عَنْهُ وَأَنتُمْ تَسْمَعُونَ } [الأنفال: 20] لأن ثمرة السماع الفهم والتصديق وثمرتهما الإرادة وثمرتها الطاعة فلا تصح دعوى السماع مع الإعراض { { وَلاَ تَكُونُواْ كَٱلَّذِينَ قَالُواْ سَمِعْنَا وَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ } [الأنفال: 21] لكونهم محجوبين عن الفهم { إِنَّ شَرَّ ٱلدَّوَابِّ عِندَ ٱللَّهِ ٱلصُّمُّ } عن السماع { ٱلْبُكْمُ } عن القبول { { ٱلَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ } [الأنفال: 22] لماذا خلقوا { وَلَوْ عَلِمَ ٱللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا } استعداداً صالحاً { لأسْمَعَهُمْ } سماع تفهم { وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ } مع عدم علم الخير فيهم { { لَتَوَلَّواْ } [الأنفال: 23] ولم ينتفعوا به وارتدوا سريعاً إذ شأن العارض الزوال وهم معرضون بالذات { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱسْتَجِيبُواْ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ } بالتصفية { إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ } وهو العلم بالله تعالى، وقد يقال: استجيبوا لله تعالى بالباطن والأعمال القلبية وللرسول بالظاهر والأعمال النفسية، أو استجيبوا لله تعالى بالفناء في الجمع وللرسول عليه الصلاة والسلام بمراعاة حقوق التفصيل إذا دعاكم لما يحييكم من البقاء { وَٱعْلَمُواْ أَنَّ ٱللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ ٱلْمَرْءِ وَقَلْبِهِ } فيزول الاستعداد فانتهزوا الفرصة { وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ } [الأنفال: 24] فيجازيكم على حسب مراتبكم { وَٱتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً } [الأنفال: 25] بل تشملهم وغيرهم بشؤم الصحبة { وَٱذْكُرُواْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ } من حيث القدر لجهلكم { مُّسْتَضْعَفُونَ } في أرض النفس { تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ ٱلنَّاسُ } أي ناس القوى الحسية لضعف نفوسكم { فَآوَاكُمْ } إلى مدينة العلم، { وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ } في مقام توحيد الأفعال { وَرَزَقَكُم مّنَ ٱلطَّيّبَاتِ } أي علوم تجليات الصفات { { لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } [الأنفال: 26] ذلك، وقد يقال: واذكروا أيها الأرواح والقلوب إذ كنتم قليلاً ليس معكم غيركم إذ لم ينشأ لكم بعد الصفات والأخلاق الروحانية { مُّسْتَضْعَفُونَ } في أرض البدن { تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ ٱلنَّاسُ } من النفس وأعوانها / { فَآوَاكُمْ } إلى حظائر قدسه { وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ } بالواردات الربانية { وَرَزَقَكُم مّنَ ٱلطَّيّبَاتِ } وهي تجلياته سبحانه { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَخُونُواْ ٱللَّهَ } بترك الإيمان { وَٱلرَّسُولِ } بترك التخلق بأخلاقه عليه الصلاة والسلام { وَتَخُونُواْ أَمَـٰنَـٰتِكُمْ } وهي ما رزقكم الله تعالى من القدرة وسلامة الآلات بترك الأعمال الحسنة أو لا تخونوا الله تعالى بنقض ميثاق التوحيد الفطري السابق والرسول عليه الصلاة والسلام بنقض العزيمة ونبذ العقد اللاحق وتخونوا أماناتكم من المعارف والحقائق التي استودع الله تعالى فيكم حسب استعدادكم بإخفائها بصفات النفس { { وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ } [الأنفال: 27] قبح ذلك أو تعلمون أنكم حاملوها { وَٱعْلَمُواْ أَنَّمَا أَمْوٰلُكُمْ وَأَوْلَـٰدُكُمْ فِتْنَةٌ } يختبركم الله تعالى بها ليرى أتحتجبون بمحبتها عن محبته أو لا تحتجبون { وَأَنَّ ٱللَّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ } [الأنفال: 28] لمن لا يفتتن بذلك ولا يشغله عن محبته { يِـٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ إَن تَتَّقُواْ ٱللَّهَ } بالاجتناب عن الخيانة والاحتجاب بمحبة الأموال والأولاد { يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا } نوراً تفرقون به بين الحق والباطل، وربما يقال: إن ذلك إشارة إلى نور يفرقون به بين الأشياء بأن يعرفوها بواسطته معرفة يمتاز به بعضها عن بعض وهو المسمى عندهم بالفراسة. وفي بعض الآثار «اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور من نور الله تعالى» { وَيُكَفّرْ عَنكُمْ سَيْئَاتِكُمْ } وهي صفات نفوسكم { وَيَغْفِرْ لَكُمْ } ذنوب ذواتكم { { وَٱللَّهُ ذُو ٱلْفَضْلِ ٱلْعَظِيمِ } [الأنفال: 29] فيجعل لكم الفرقان ويفعل ويفعل { وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } الآية جعلها بعضهم خطاباً للنبـي صلى الله عليه وسلم ومعناها ما ذكرناه سابقاً، وجعلها بعضهم خطاباً للروح وهو تأويل أنفسي، أي وإذ يمكر بك أيها الروح الذين كفروا وهي النفس وقواها { لِيُثْبِتُوكَ } ليقيدوك في أسر الطبيعة { أَوْ يَقْتُلُوكَ } بانعدام آثارك { أَوْ يُخْرِجُوكَ } [الأنفال: 30] من عالم الأرواح { وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُعَذّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ } لأنك الرحمة للعالمين { { وَمَا كَانَ ٱللَّهُ مُعَذّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ } [الأنفال: 33] إذ لا ذنب مع الاستغفار ولا عذاب من غير ذنب { وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذّبَهُمُ ٱللَّهُ } أي أنهم مستحقون لذلك كيف لا { وَهُمْ يَصُدُّونَ } المستعدين { عَنِ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ } الذي هو القلب بإغرائهم على الأمور النفسانية واللذات الطبيعية { وَمَا كَانُوۤاْ أَوْلِيَآءَهُ } لغلبة صفات أنفسهم عليهم { إِنْ أَوْلِيَآؤُهُ إِلاَّ ٱلْمُتَّقُونَ } تلك الصفات { { وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } [الأنفال: 34] ذلك الحكم، وقال النيسابوري: ولكن أكثرهم أي المتقين لا يعلمون أنهم أولياؤه لأن الولي قد لا يعرف أنه ولي { وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ ٱلْبَيْتِ } وهو ذلك المسجد { إِلاَّ مُكَآءً } إلا وساوس وخطرات شيطانية { { وَتَصْدِيَةً } [الأنفال: 35] وعزماً على الأفعال الشنيعة { إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْوٰلَهُمْ } من الاستعداد الفطري في غير مرضاة الله تعالى { لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ } طريقه الموصل إليه { فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً } لزوال لذاتهم حتى تكون نسياً منسياً { ثُمَّ يُغْلَبُونَ } لتمكن الأخلاق الذميمة فيهم فلا يستطيعون العدول عنها { وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } أي وهم، إلا أنه أقيم الظاهر مقام المضمر تعليلاً للحكم الذي تضمنه قوله سبحانه: { إِلَىٰ جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ } [الأنفال: 36] وهي جهنم القطعية { قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ } عما هم عليه { يُغْفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ } [الأنفال: 38] { وَقَـٰتِلُوهُمْ } أي قاتلوا أيها المؤمنون كفار النفوس فإن جهادها هو الجهاد الأكبر { حَتَّىٰ لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ } مانعة عن الوصول إلى الحق { وَيَكُونَ الدّينُ كُلُّهُ لِلهِ } ويضمحل دين النفس الذي شرعته { { فَإِنِ انْتَهَوْاْ فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } [الأنفال: 39] فيجازيهم على ذلك والله تعالى الموفق لأوضح المسالك لا رب غيره ولا يرجى إلا خيره.