خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

ٱلتَّائِبُونَ ٱلْعَابِدُونَ ٱلْحَامِدُونَ ٱلسَّائِحُونَ ٱلرَّاكِعُونَ ٱلسَّاجِدونَ ٱلآمِرُونَ بِٱلْمَعْرُوفِ وَٱلنَّاهُونَ عَنِ ٱلْمُنكَرِ وَٱلْحَافِظُونَ لِحُدُودِ ٱللَّهِ وَبَشِّرِ ٱلْمُؤْمِنِينَ
١١٢
-التوبة

روح المعاني

{ ٱلتَّـٰئِبُونَ } نعت للمؤمنين، وقطع لأجل المدح أي هم التائبون ويدل على ذلك قراءة عبد الله. وأبـي { التائبين } بالياء على أنه منصوب على المدح أو مجرور على أنه صفة للمؤمنين. وجوز أن يكون { ٱلتَّـٰئِبُونَ } مبتدأ والخبر محذوف أي من أهل الجنة أيضاً وإن لم يجاهدوا كقوله تعالى: { { وَكُلاًّ وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلْحُسْنَىٰ } [النساء: 95] فإن كلاً فيه عام، والحسنى بمعنى الجنة. وقيل: الخبر قوله تعالى: { ٱلْعَـٰبِدُونَ } وما بعده خبر بعد خبر، وقيل: خبره { ٱلاْمِرُونَ بِٱلْمَعْرُوفِ } وقيل: إنه بدل من ضمير { { يُقَـٰتَلُونَ } [التوبة: 111] والأول أظهر إلا أنه يكون الموعود بالجنة عليه هو المجاهد المتصف بهذه الصفات لا كل مجاهد وبذلك يشعر ما أخرجه ابن أبـي شيبة وابن المنذر عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: الشهيد من كان فيه الخصال التسع وتلا هذه الآية. وأورد عليه أنه ينافي ذلك ما صح من حديث مسلم من أن من قتل في سبيل الله تعالى وهو صابر محتسب مقبل غير مدبر كفرت خطاياه إلا الدين فإنه ظاهر في أن المجاهد قد لا يكون متصفاً بجميع ما في الآية من الصفات وإلا لا يبقى لتكفير الخطايا وجه، وكأنه من هنا اختار الزجاج كونه مبتدأ والخبر محذوف كما سمعت إذ في الآية عليه تبشير مطلق المجاهدين بما ذكر وهو المفهوم من ظواهر الأخبار. نعم دل كثير منها على أن الفضل الوارد في المجاهدين مختص بمن قاتل لتكون كلمة الله تعالى هي العليا وأن من قاتل للدنيا والسمعة استحق النار. وفي «صحيح مسلم» ما يقتضي ذلك فليفهم.

والمراد من التائبين على ما أخرجه ابن جرير وابن المنذر وغيرهما عن الحسن وقتادة الذين تابوا عن الشرك ولم ينافقوا. وأخرج ابن أبـي حاتم وأبو الشيخ عن الضحاك أنهم الذين تابوا عن الشرك والذنوب، وأيد ذلك بأن التائبين في تقدير الذين تابوا وهو من ألفاظ العموم يتناول كل تائب فتخصيصه بالتائب عن بعض المعاصي تحكم. وأجيب بأن ذكرهم بعد ذكر المنافقين ظاهر في حمل التوبة على التوبة عن الكفر والنفاق، وأيضاً لو حملت التوبة على التوبة عن المعاصي يكون ما ذكر بعد من الصفات غير تام الفائدة مع أن من اتصف بهذه الصفات الظاهر اجتنابه للمعاصي، والمراد / من العابدين الذين أتوا بالعباد على وجهها، وقال الحسن: هم الذين عبدوا الله تعالى في أحايينهم كلها، أما والله ما هو بشهر ولا شهرين ولا سنة ولا سنتين ولكن كما قال العبد الصالح: { { وَأَوْصَانِي بِٱلصَّلاَةِ وَٱلزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً } [مريم: 31] وقال قتادة: هم قوم أخذوا من أبدانهم في ليلهم ونهارهم.

{ ٱلْحَـٰمِدُونَ } أي الذين يحمدون الله تعالى على كل حال كما روي عن غير واحد من السلف، فالحمد بمعنى الوصف بالجميل مطلقاً، وقيل: هو بمعنى الشكر فيكون في مقابلة النعمة أي الحامدون لنعمائه تعالى وأنت تعلم أن الحمد في كل حال أولى وفيه تأس برسول الله صلى الله عليه وسلم: فقد أخرج ابن مردويه وأبو الشيخ والبيهقي في «الشعب» عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أول من يدعى إلى الجنة الحمادون الذين يحمدون على السراء والضراء" وجاء عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: «كان النبـي صلى الله عليه وسلم إذا أتاه الأمر يسره قال: الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات وإذا أتاه الأمر يكرهه قال: الحمد لله على كل حال».

{ ٱلسَّـٰئِحُونَ } أي الصائمون، فقد أخرج ابن مردويه عن ابن مسعود وأبـي هريرة رضي الله تعالى عنهم «أن النبـي صلى الله عليه وسلم سئل عن ذلك فأجاب بما ذكر» وإليه ذهب جلة من الصحابة والتابعين. وجاء عن عائشة «سياحة هذه الأمة الصيام»، وهو من باب الاستعارة لأن الصوم يعوق عن الشهوات كما أن السياحة تمنع منها في الأكثر، أو لأنه رياضة روحانية ينكشف بها كثير من أحوال الملك والملكوت فشبه الاطلاع عليها بالاطلاع على البلدان والأماكن النائية إذ لا يزال المرتاض يتوصل من مقام إلى مقام ويدخل من مدائن المعارف إلى مدينة بعد أخرى على مطايا الفكر. وأخرج ابن أبـي حاتم عن ابن زيد أن السائحين هم المهاجرون ليس في أمة محمد صلى الله عليه وسلم سياحة إلا الهجرة. وأخرج هو وأبو الشيخ عن عكرمة أنهم طلبة العلم لأنهم يسيحون في الأرض لطلبه، وقيل: هم المجاهدون لما أخرج الحاكم وصححه والطبراني وغيرهما «عن أبـي أمامة أن رجلاً استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في السياحة فقال: إن سياحة أمتي الجهاد في سبيل الله تعالى» والمختار ما تقدم كما أشرنا إليه، وإنما لم تحمل السياحة على المعنى المشهور لأنها نوع من الرهبانية، وقد نهي عنها وكانت كما أخرج ابن جرير عن وهب بن منبه في بني إسرائيل.

{ ٱلركِعُونَ ٱلسَّـٰجِدونَ } أي في الصلوات المفروضات كما روي عن الحسن، فالركوع والسجود على معناهما الحقيقي، وجعلهما بعضهم عبارة عن الصلاة لأنهما أعظم أركانها فكأنه قيل: المصلون { ٱلآمِرُونَ بِٱلْمَعْرُوفِ } أي الإيمان { وَٱلنَّاهُونَ عَنِ ٱلْمُنكَرِ } أي الشرك كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في الأمرين، ولو أبقي لفظ النظم الجليل على عمومه لكان له وجه بل قيل إنه الأولى. والعطف هنا على ما في «المغني» إنما كان من جهة إن الأمر والنهي من حيث هما أمر ونهي متقابلان بخلاف بقية الصفات [أو] لأن الآمر بالمعروف ناه عن المنكر وهو ترك المعروف والناهي عن المنكر آمر بالمعروف فأشير إلى الاعتداد بكل من الوصفين وأنه لا يكفي فيه ما يحصل في ضمن الآخر، وحاصله على ما قيل: إن العطف لما بينهما من التقابل أو لدفع الايهام. ووجه بعض المحققين ذلك بأن بينهما تلازماً في الذهن والخارج لأن الأوامر تتضمن النواهي ومنافاة بحسب الظاهر لأن أحدهما طلب فعل والآخر طلب ترك فكانا بين كمال الاتصال والانقطاع المقتضى للعطف بخلاف / ما قبلهما، وقيل: إن العطف للدلالة على أنهما في حكم خصلة واحدة كأنه قيل: الجامعون بين الوصفين، ويرد على ظاهره أن { ٱلركِعُونَ ٱلسَّـٰجِدونَ } في حكم خصلة واحدة أيضاً فكان ينبغي فيهما العطف على ما ذكر إذ معناه الجامعون بين الركوع والسجود ويدفع بأدنى التفات.

وإما العطف في قوله سبحانه: { وَٱلْحَـٰفِظُونَ لِحُدُودِ ٱللَّهِ } أي فيما بينه وعينه من الحقائق والشرائع فقيل للإيذان بأن العدد قد تم بالسباع من حيث أن السبعة هو العدد التام والثامن ابتداء تعداد آخر معطوف عليه ولذلك يسمى واو الثمانية، وإليه مال أبو البقاء وغيره ممن أثبت واو الثمانية وهو قول ضعيف لم يرضه النحاة كما فصله ابن هشام وسيأتي إن شاء الله تعالى تحقيقه، وقيل: إنه للتنبيه على أن ما قبله مفصل الفضائل وهذا مجملها، يعني أنه من ذكر أمر عام شامل لما قبله وغيره، ومثله يؤتى به معطوفاً نحو زيد وعمرو وسائر قبيلته كرماء فلمغايرته بالإجمال والتفصيل والعموم والخصوص عطف عليه، وقيل: هو عطف عليه، وقيل: هو عطف على ما قبله من الأمر والنهي لأن من لم يصدق فعله قوله لا يجدي أمره نفعاً ولا يفيد نهيه منعاً.

وقال بعض المحققين: إن المراد بحفظ الحدود ظاهره وهي إقامة الحد كالقصاص على من استحقه؛ والصفات الأول إلى قوله سبحانه: { ٱلآمِرُونَ } صفات محمودة للشخص في نفسه وهذه له باعتبار غيره فلذا تغاير تعبير الصنفين فترك العاطف في القسم الأول وعطف في الثاني، ولما كان لا بد من اجتماع الأول في شيء واحد ترك فيها العطف لشدة الاتصال بخلاف هذه فإنه يجوز اختلاف فاعلها ومن تعلقت به، وهذا هو الداعي لإعراب { ٱلتَّـٰئِبُونَ &# } مبتدأ موصوفاً بما بعده و { ٱلآمِرُونَ } خبره فكؤنه قيل: الكاملون في أنفسهم المكملون لغيرهم وقدم الأول لأن المكمل لا يكون مكملا حتى يكون كاملاً في نفسه، وبهذا يتسق النظم أحسن اتساق من غير تكلف وهو وجه وجيه للعطف في البعض وترك العطف في الآخر، خلا أن المأثور عن السلف كابن عباس رضي الله تعالى عنهما وغيره تفسير الحافظين لحدود الله بالقائمين على طاعته سبحانه وهو مخالف لما في هذا التوجيه ولعل الأمر فيه سهل والله تعالى أعلم بمراده.

{ وَبَشّرِ ٱلْمُؤْمِنِينَ } أي هؤلاء الموصوفين بتلك الصفات الجليلة، ووضع المؤمنين موضع ضميرهم للتنبيه على أن ملاك الأمر هو الإيمان وان المؤمن الكامل من كان كذلك، وحذف المبشر به إشارة إلى أنه أمر جليل لا يحيط به نطاق البيان.