خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَٰجِدَ ٱللَّهِ مَنْ ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَأَقَامَ ٱلصَّلَٰوةَ وَءَاتَىٰ ٱلزَّكَٰوةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ ٱللَّهَ فَعَسَىٰ أُوْلَـٰئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ ٱلْمُهْتَدِينَ
١٨
-التوبة

روح المعاني

{ إنَّمَا يَعْمُرُ مَسَـٰجدَ ٱللَّهَ } اختلف في المراد بالمساجد هنا كما اختلف في المراد بها هناك، خلا أن من قال هناك بأن المراد المسجد الحرام لا غير جوز هنا إرادة جميع المساجد قائلاً: إنها غير مخالفة لمقتضى الحال فإن الإيجاب ليس كالسلب وادعى أن المقصود قصر تحقق العمارة على المؤمنين لا قصر لياقتها وجوازها وأنا أرى قصر اللياقة لائقاً بلا قصور، وقرىء بالتوحيد أي إنما يليق أن يعمرها { مَنْ آمَنَ باللهِ واليَوْمِ الآخِر } على الوجه الذي نطق به الوحي { وَأَقَامَ ٱلصَّلاَةَ وَآتَىٰ ٱلزَّكَاةَ } التي أتى بهما الرسول صلى الله عليه وسلم فيندرج في ذلك الإيمان به عليه الصلاة والسلام حتماً إذ لا يتلقى ذلك إلا منه صلى الله عليه وسلم. وجوز أن يكون ذكر الإيمان به عليه الصلاة والسلام قد طوي تحت ذكر الإيمان بالله تعالى دلالة على أنهما كشيء واحد إذا ذكر أحدهما فهم الآخر، على أنه أشير بذكر المبدأ والمعاد إلى ما يجب الإيمان به أجمع ومن جملته رسالته صلى الله عليه وسلم، وقيل: إنما لم يذكر عليه الصلاة والسلام لأن المراد بمن هو صلى الله عليه وسلم وأصحابه أي المستحق لعمارة المساجد من هذه صفته كائناً من كان، وليس الكلام في إثبات نبوته عليه الصلاة والسلام والإيمان به بل فيه نفسه وعمارته المسجد واستحقاقه لها، فالآية على حد قوله سبحانه: { إِنّي رَسُولُ ٱللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا } إلى قوله تعالى: { { فَآمِنُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ ٱلنَّبِيِّ ٱلأُمِّيِّ ٱلَّذِي يُؤْمِنُ بِٱللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ } [الأعراف: 158] والوجه الثاني أولى.

والمراد بالعمارة ما يعم مرمة ما استرم منها وقمها وتنظيفها وتزيينها بالفرش لا على وجه يشغل قلب المصلي عن الحضور، ولعل ما هو من جنس ما يخرج من الأرض كالقطن والحصر السامانية أولى من نحو الصوف إذ قيل: بكراهة الصلاة عليه، وتنويرها بالسرج ولو لم يكن هناك من يستضيء بها على ما نص عليه جمع، وإدامة العبادة والذكر ودراسة العلوم الشرعية فيها ونحو ذلك، وصيانتها مما لم تبن له في نظر الشارع كحديث الدنيا، ومن ذلك الغناء على مآذنها كما هو معتاد الناس اليوم لا سيما بالأبيات التي غالبها هجر من القول. وقد روي عنه عليه الصلاة والسلام "الحديث في المسجد يأكل الحسنات كما تأكل البهيمة الحشيش" وهذا الحديث في الحديث المباح فما ظنك بالمحرم مطلقاً أو المرفوع فوق المآذن. وأخرج الطبراني بسند صحيح عن سلمان رضي الله تعالى عنه عن النبـي صلى الله عليه وسلم قال: "من توضأ في بيته ثم أتى المسجد فهو زائر الله تعالى وحق على المزور أن يكرم الزائر" وأخرج سليم الرازي في «الترغيب» عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: / قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من أسرج في مسجد سراجاً لم تزل الملائكة وحملة العرش يستغفرون له ما دام في ذلك المسجد ضوؤه" وأخرج أبو بكر الشافعي وغيره عن أبـي قرصافة قال: "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إخراج القمامة من المسجد مهور الحور العين" وسمعته عليه الصلاة والسلام يقول "من بنى لله تعالى مسجداً بنى الله تعالى له بيتاً في الجنة فقالوا: يا رسول الله وهذه المساجد التي تبنى في الطرق. فقال عليه الصلاة والسلام: وهذه المساجد التي تبنى في الطرق" وأخرج الطبراني عن أبـي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "الغدو والرواح إلى المسجد من الجهاد في سبيل الله تعالى" وأخرج أحمد والترمذي وحسنه وابن ماجه والحاكم وصححه وجماعة عن أبـي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا رأيتم الرجل يعتاد المسجد فاشهدوا له بالإيمان وتلا صلى الله عليه وسلم إنما يعمر" الآية.

واستشكل ذكر إيتاء الزكاة في الآية بأنه لا تظهر مدخليته في العمارة، وتكلف لذلك بأن الفقراء يحضرون المساجد للزكاة فتعمر بهم وأن من لا يبذل المال للزكاة الواجبة لا يبذله لعمارتها وهو كما ترى. والحق أن المقصود بيان أن من يعمر المساجد هو المؤمن الظاهر إيمانه وهو إنما يظهر بإقامة واجباته، فعطف الإقامة والإيتاء على الإيمان للإشارة إلى ذلك.

{ وَلَمْ يَخْشَ } أحد { إِلاَّ ٱللَّهَ } فعمل بموجب أمره ونهيه غير آخذ له في الله تعالى لومة لائم ولا مانع له خوف ظالم فيندرج فيه عدم الخشية عند القتال الموبخ عليها في قوله سبحانه: { أَتَخْشَوْنَهُمْ فَٱللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ } [التوبة: 13] وأما الخوف الجبلي من الأمور المخوفة فليس من هذا الباب ولا هو مما يدخل تحت التكليف، والخطاب والنهي في قوله تعالى: { خُذْهَا وَلاَ تَخَفْ } [طه: 21] ليس على حقيقته. وقيل: كانوا يخشون الأصنام ويرجونها فأريد نفي تلك الخشية عنهم.

{ فَعَسَىٰ أُوْلَـٰئِكَ } المنعوتون بأكمل النعوت { أَن يَكُونُواْ مِنَ ٱلْمُهْتَدِينَ } أي إلى الجنة وما أعد الله تعالى فيها لعباده كما روي عن ابن عباس والحسن، وإبراز اهتدائهم لذلك مع ما بهم من تلك الصفات الجليلة في معرض التوقع لحسم أطماع الكافرين عن الوصول إلى مواقف الاهتداء لأن هؤلاء المؤمنين وهم ـ هم ـ إذا كان أمرهم دائراً بين لعل وعسى فما بال الكفرة بيت المخازي والقبائح، وفيه قطع اتكال المؤمنين على أعمالهم وما هم عليه وإرشادهم إلى ترجيح جانب الخوف على جانب الرجاء، وهذا هو المناسب للمقام لا الأطماع وسلوك سنن الملوك مع كون القصد إلى الوجوب، وكون الكفرة يزعمون أنهم محقون وأن غيرهم على الباطل فلا يتأتى حسم أطماعهم لا يلتفت إليه بعد ظهور الحق وهذا لا ريب فيه. وقيل: إن الأوصاف المذكورة، وإن أوجبت الاهتداء، ولكن الثبات عليها مما لا يعلمه إلا الله تعالى وقد يطرأ ما يوجب ضد ذلك والعبرة للعاقبة، فكلمة التوقع يجوز أن تكون لهذا ولا يخفى ما فيه فإن النظر إلى العاقبة هنا لا يناسب المقام الذي يقتضي تفضيل المؤمنين عليهم في الحال.