خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْاْ رُسُلَهُ وَٱتَّبَعُوۤاْ أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ
٥٩
وَأُتْبِعُواْ فِي هَـٰذِهِ ٱلدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ أَلاۤ إِنَّ عَاداً كَفَرُواْ رَبَّهُمْ أَلاَ بُعْداً لِّعَادٍ قَوْمِ هُودٍ
٦٠
-هود

التحرير والتنوير

الإشارة بـ{ تِلك } حاضر في الذّهن بسبب ما أجري عليه من الحديث حتى صار كأنّه حاضر في الحسّ والمشاهدة. كقوله تعالى: { { تلك القرى نقصّ عليك من أنبائها } [الأعراف: 101] وكقوله: { أولئك على هدىً من ربّهم } [البقرة: 5]، وهو أيضاً مثله في أنّ الإتيان به عقب الأخبار الماضية عن المشار إليهم للتنبيه على أنّهم جديرون بما يأتي بعد اسم الإشارة من الخبر لأجل تلك الأوصاف المتقدّمة.

وتأنيث اسم الإشارة بتأويل الأمّة.

و{ عاد } بيان من اسم الإشارة.

وجملة { جحدوا } خبر عن اسم الإشارة. وهو وما بعده تمهيد للمعطوف وهو { وأتبعوا في هذه الدنيا لعنة } لزيادة تسجيل التّمهيد بالأجرام السّابقة، وهو الذي اقتضاه اسم الإشارة كما تقدّم، لأنّ جميع ذلك من أسباب جمع العذابين لهم.

والجحد: الإنكار الشّديد، مثل إنكار الواقعات والمشاهدات. وهذا يدلّ على أنّ هوداً أتاهم بآيات فأنكروا دلالتها. وعدي { جَحدوا } بالباء مع أنّه متعدّ بنفسه لتأكيد التّعدية، أو لتضمينه معنى كفروا فيكون بمنزلة ما لو قيل: جحدوا آيات ربّهم وكفروا بها، كقوله: { وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم } [النمل: 14].

وجمع الرسل في قوله: { وعصَوا رُسلَه } وإنّما عَصَوْا رَسولاً واحداً، وهو هود ـ عليه السّلام ـ لأنّ المراد ذكر إجرامهم فناسب أن يناط الجرم بعصيان جنس الرسل لأن تكذيبهم هوداً لم يكن خاصاً بشخصه لأنهم قالوا له: { وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك } [هود: 53]، فكل رسول جاء بأمر ترك عبادة الأصنام فهم مكذبون به. ومثله قوله تعالى: { كذّبت عادٌ المرسلين } [الشعراء: 123].

ومعنى اتباع الآمر: طاعة ما يأمرهم به، فالاتّباع تمثيل للعمل بما يملى على المتبع، لأنّ الآمر يشبه الهادي للسائر في الطريق، والممتثلَ يشبه المتبع للسائر.

والجبار: المتكبّر. والعنيد: مبالغة في المعاندة. يقال: عند ـ مثلث النون ـ إذا طغى، ومن كان خلقه التجبّر، والعنود لا يأمر بخير ولا يدعو إلاّ إلى باطل، فدلّ اتّباعهم أمر الجبابرة المعاندين على أنّهم أطاعوا دعاة الكفر والضلال والظلم.

و{ كل } من صيغ العموم، فإنْ أريد كلّ جبار عنيد من قومهم فالعموم حقيقي، وإنْ أريد جنس الجبابرة فـ{ كلّ } مستعملة في الكثرة كقول النابغة:

بها كلّ ذَيّال وخنساءَ ترعوي

ومنه قوله تعالى: { يأتوك رجالاً وعلى كلّ ضامرٍ } في سورة [الحج: 27].

وإتْباع اللعنة إيّاهم مستعار لإصابتها إيّاهم إصابة عاجلة دون تأخير كما يتبع الماشي بمن يلحقه. وممّا يزيد هذه الاستعارة حسناً ما فيها من المشاركة ومن مماثلة العقاب للجرم لأنّهم اتّبعوا الملعونين فأتبعوا باللّعنة.

وبني فعل { أتبعوا } للمجهول إذْ لاَ غرض في بيان الفاعل، ولم يسند الفعل إلى اللعنة مع استيفائه ذلك على وجه المجاز ليدل على أنّ إتْبَاعها لهم كان بأمر فاعل للإشعار بأنّها تبعتهم عقاباً من الله لا مجرّد مصادفة.

واللّعنة: الطرد بإهانة وتحقير.

وقرن الدنيا باسم الإشارة لقصد تهوين أمرها بالنّسبة إلى لعنة الآخرة، كما في قول قيس بن الخطيم:

متى يأت هذا الموت لا يلف حاجة لنفسي إلاّ قدْ قضيت قضاءها

أومأ إلى أنّه لا يكترث بالموت ولا يهابه.

وجملة { ألاَ إنّ عاداً كفروا ربّهم } مستأنفة ابتدائية افتتحت بحرف التنبيه لِتهويل الخبر ومؤكدة بحرف { إنّ } لإفادة التعليل بجملة { وأتبعوا في هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة } تعريضاً بالمشركين ليعتبروا بما أصاب عاداً.

وعدّيَ { كفروا ربّهم } بدون حرف الجر لتضمينه معنى عَصَوْا في مقابلة { واتّبعوا أمر كلّ جبّارٍ عنيدٍ }، أو لأنّ المراد تقدير مضاف، أي نعمة ربّهم لأنّ مادّة الكفر لا تتعدّى إلى الذات وإنما تتعدى إلى أمر معنوي.

وجملة { ألا بعداً لعاد } ابتدائية لإنشاء ذمّ لهم. وتقدّم الكلام على { بعْداً } عند قوله في قصّة نوح ـ عليه السّلام ـ { وقيل بعداً للقوم الظالمين } [هود: 44].

و{ قوم هود } بيان لـ(عاد) أو وصف لـ(عاد) باعتبار ما في لفظ { قوم } من معنى الوصفية. وفائدة ذكره الإيماء إلى أنّ له أثراً في الذمّ بإعراضهم عن طاعة رسولهم، فيكون تعريضاً بالمشركين من العرب، وليس ذكره للاحتراز عن عاد أخرى وهم إرَم كما جوّزه صاحب «الكشاف» لأنّه لا يعرف في العرببِ عاد غير قوم هود وهم إرم، قال تعالى: { ألم تر كيف فعل ربك بِعادٍ إرَم ذات العماد } [الفجر: 6، 7].