خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

هُوَ ٱلَّذِي يُرِيكُمُ ٱلْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنْشِىءُ ٱلسَّحَابَ ٱلثِّقَالَ
١٢
وَيُسَبِّحُ ٱلرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَٱلْمَلاَئِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ ٱلصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَن يَشَآءُ وَهُمْ يُجَٰدِلُونَ فِي ٱللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ ٱلْمِحَالِ
١٣
-الرعد

التحرير والتنوير

استئناف ابتدائي على أسلوب تعداد الحجج الواحدة تلوى الأخرى، فلأجل أسلوب التعداد إذ كان كالتكرير لم يعطف على جملة { { سواء منكم من أسر القول } [الرعد: 10].

وقد أعرب هذا عن مظهر من مظاهر قدرة الله وعجيب صنعه. وفيه من المناسبة للإنذار بقوله: { { إن الله لا يغير ما بقوم } [سورة الرعد: 11] الخ أنه مثال لتصرف الله بالإنعام والانتقام في تصرف واحد مع تذكيرهم بالنعمة التي هم فيها. وكل ذلك مناسب لمقاصد الآيات الماضية في قوله: { { الله يعلم ما تحمل كل أنثى } [سورة الرعد: 8] وقوله: { { وكل شيء عنده بمقدار } [سورة الرعد: 8]، فكانت هذه الجملة جديرة بالاستقلال وأن يجاء بها مستأنفة لتكون مستقلة في عداد الجمل المستقلة الواردة في غرض السورة.

وجاء هنا بطريق الخطاب على أسلوب قوله: { { سواء منكم من أسر القول } [سورة الرعد: 10] لأن الخوف والطمع يصدران من المؤمنين ويهدد بهما الكفرة.

وافتتحت الجملة بضمير الجلالة دون اسم الجلالة المفتتح به في الجمل السابقة، فجاءت على أسلوب مختلف. وأحسب أن ذلك مراعاة لكون هاته الجملة مفرعة عن أغراض الجمل السابقة فإن جُمل فواتح الأغراض افتتحت بالاسم العلم كقوله: { { الله الذي رفع السماوات بغير عَمد } [سورة الرعد: 2] وقوله: { { الله يعلم ما تحمل كل أنثى } [سورة الرعد: 8] وقوله: { { إن الله لا يغير ما بقوم } [سورة الرعد: 11]، وجمل التفاريع افتتحت بالضمائر كقوله: { { يدبر الأمر } [سورة الرعد: 4] وقوله: { { وهو الذي مد الأرض } [سورة الرعد: 3] وقوله: { جعل فيها زوجين }.

و{ خوفاً وطمعاً } مصدران بمعنى التخويف والإطماع، فهما في محل المفعول لأجله لظهور المراد.

وجعل البرق آية نذارة وبشارة معاً لأنهم كانوا يَسِمون البرق فيتوسمون الغيث وكانوا يخشون صواعقه.

وإنشاء السحاب: تكوينه من عدم بإثارة الأبْخرة التي تتجمع سحاباً.

والسحاب: اسم جمع لسحابة. والثقال: جمع ثقيلة. والثقل كون الجسم أكثر كمية أجزاء من أمثاله، فالثقل أمر نسبي يختلف باختلاف أنواع الأجسام، فرب شيء يعد ثقيلاً في نوعه وهو خفيف بالنسبة لنوع آخر. والسحاب يكون ثقيلاً بمقدار ما في خلاله من البخار. وعلامة ثقله قربه من الأرض وبطء تنقله بالرياح. والخفيف منه يُسمى جهاماً.

وعطف الرعد على ذكر البرق والسحاب لأنه مقارنهما في كثير من الأحوال.

ولما كان الرعد صوتاً عظيماً جعل ذكره عبرة للسامعين لدلالة الرعد بلوازم عقلية على أن الله منزه عما يقوله المشركون من ادعاء الشركاء، وكان شأن تلك الدلالة أن تبعث الناظر فيها على تنزيه الله عن الشريك جعل صوت الرعد دليلاً على تنزيه الله تعالى، فإسناد التسبيح إلى الرعد مجاز عقلي. ولك أن تجعله استعارة مكنية بأن شبه الرعد بآدمي يُسبح الله تعالى، وأثبت شيء من علائق المشبّه به وهو التسبيح، أي قول سبحان الله.

والباء في { بحمده } للملابسة، أي ينزه الله تنزيهاً ملابساً لحمده من حيث إنه دال على اقتراب نزول الغيث وهو نعمة تستوجبُ الحمد. فالقول في ملابسة الرعد للحمد مساوٍ للقول في إسناد التسبيح إلى الرعد. فالملابسة مجازية عقلية أو استعارة مكنية.

و{ الملائكة } عطف على الرعد، أي وتسبح الملائكة من خيفته، أي من خوف الله.

و{ من } للتعليل، أي ينزهون الله لأجل الخوف منه، أي الخوف مما لا يرضى به وهو التقصير في تنزيهه.

وهذا اعتراض بين تعداد المواعظ لمناسبة التعريض بالمشركين، أي أن التنزيه الذي دلت عليه آيات الجو يقوم به الملائكة، فالله غني عن تنزيهكم إياه، كقوله: { { إن تكفروا فإن الله غني عنكم } [سورة الزمر: 7]، وقوله: { { وقال موسى إن تكفروا أنتم ومن في الأرض جميعاً فإن الله لغني حميد } [سورة إبراهيم: 8].

واقتصر في العبرة بالصواعق على الإنذار بها لأنها لا نعمة فيها لأن النعمة حاصلة بالسحاب وأما الرعد فآلة من آلات التخويف والإنذار. كما قال في آية سورة البقرة { { أو كصيب من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت } [سورة البقرة: 19]. وكان العرب يخافون الصواعق. ولقبوا خويلد بن نفيل الصَعِق لأنه أصابته صاعقة أحرقته.

ومن هذا القبيل قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله يخوّف الله بهما عباده" ، أي بكسوفهما فاقتصر في آيتهما على الإنذار إذ لا يترقب الناس من كسوفهما نفعاً.

وجملة { وهم يجادلون في الله } في موضع الحال لأنه من متممات التعجب الذي في قوله: { { وإن تعجب فعجب قولهم } [الرعد: 5] الخ. فضمائر الغيبة كلها عائدة إلى الكفار الذين تقدم ذكرهم في صدر السورة بقوله: { { ولكن أكثر الناس لا يؤمنون } [الرعد: 1] وقوله: { { أولئك الذين كفروا بربهم } [الرعد: 5] وقوله: { { ويقول الذين كفروا لولا أنزل عليه آية من ربه } [الرعد: 7]. وقد أعيد الأسلوب هنا إلى ضمائر الغيبة لانقضاء الكلام على ما يصلح لموعظة المؤمنين والكافرين فتمحض تخويف الكافرين.

والمجادلة: المخاصمة والمراجعة بالقول. وتقدم في قوله تعالى: { { ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم } في سورة النساء (107).

وقد فهم أن مفعول { يجادلون } هو النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون. فالتقدير: يجادلونك أو يجادلونكم، كقوله: { { يجادلونك في الحق بعد ما تبين } في سورة الأنفال (6).

والمجادلة إنما تكون في الشؤون والأحوال، فتعليق اسم الجلالة المجرور بفعل { يجادلون } يتعين أن يكون على تقدير مضاف تدل عليه القرينة، أي في توحيد الله أو في قدرته على البعث.

ومن جدلهم ما حكاه قوله: { { أو لم يرى الإنسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين وضرب لنا مثلاً ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم } }. في سورة يس (77، 78).

والمِحال: بكسر الميم يحتمل هنا معنيين، لأنه إن كانت الميم فيه أصلية فهو فِعال بمعنى الكيد وفعله مَحَل، ومنه قولهم تمحل إذا تحيل. جعل جدالهم في الله جدال كيد لأنهم يبرزونه في صورة الاستفهام في نحو قولهم: { من يُحيي العظام وهي رميم } فقوبل بــــ { شديد المحال } على طريقة المشاكلة، أي وهو شديد المحال لا يغلبونه، ونظيره { { ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين } [سورة آل عمران: 54].

وقال نفطويه: هو من ماحل عن أمره، أي جَادل. والمعنى: وهو شديد المجادلة، أي قوي الحجة.

وإن كانت الميم زائدة فهو مفعل من الحول بمعنى القوة، وعلى هذا فإبدال الواو ألفاً على غير قياس لأنه لا موجب للقلب لأن ما قبل الواو ساكن سكوناً حياً. فلعلهم قلبوها ألفاً للتفرقة بينه وبين مِحول بمعنى صبي ذي حول، أي سنة.

وذكر الواحدي والطبري أخباراً عن أنس وابن عباس رضي الله عنهما أن هذه الآية نزلت في قضية عامر بن الطفيل وأربد بن ربيعة حين وردا المدينة يشترطان لدخولهما في الإسلام شروطاً لم يقبلها منهما النبي صلى الله عليه وسلم. فهمّ أرْبَد بقتل النبي صلى الله عليه وسلم فصرفه الله، فخرج هو وعامر بن الطفيل قاصدين قومهما وتواعدا النبي صلى الله عليه وسلم بأن يجلبا عليه خيل بني عامر. فأهلك الله أربَد بصاعقة أصابته وأهلك عامراً بِغُدة نبتت في جسمه فمات منها وهو في بيت امرأة من بني سلول في طريقه إلى أرض قومه، فنزلت في أربد { ويرسل الصواعق } وفي عامر { وهم يجادلون في الله }.

وذكر الطبري عن صحار العبدي: أنها نزلت في جبار آخر. وعن مجاهد: أنها نزلت في يهودي جادل في الله فأصابته صاعقة.

ولما كان عامر بن الطفيل إنما جاء المدينة بعد الهجرة وكان جدال اليهود لا يكون إلا بعد الهجرة أقدم أصحاب هذه الأخبار على القول بأن السورة مدنية أوْ أن هذه الآيات منها مدنية، وهي أخبار ترجع إلى قول بعض الناس بالرأي في أسباب النزول. ولم يثبت في ذلك خبر صحيح صريح فلا اعتداد بما قالوه فيها ولا يخرج السورة عن عداد السور المكية. وفي هذه القصة أرسل عامر بن الطفيل قوله: «أغُدّة كغدة البعير وموت في بيت سلولية» مثلاً. ورثى لبيد بن ربيعة أخاه أربدَ بأبيات منها:

أخشى على أربد الحتوف ولاأرهب نَوْء السِماك والأسد
فجّعَني الرعد والصواعق بالفــــــــارس يوم الكريهة النّجِدِ