خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّـكُمْ مِّنْ أَرْضِنَآ أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَىٰ إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ ٱلظَّالِمِينَ
١٣
وَلَنُسْكِنَنَّـكُمُ ٱلأَرْضَ مِن بَعْدِهِمْ ذٰلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ
١٤
-إبراهيم

التحرير والتنوير

{ وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّـكُمْ مِّنْ أَرْضِنَآ أَوْ لَتَعُودُنَّ فِى مِلَّتِنَا فَأَوْحَىٰ إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ ٱلظَّـٰلِمِينَ * وَلَنُسْكِنَنَّـكُمُ ٱلأَرْضَ مِن بَعْدِهِمْ }.

تغيير أسلوب الحكاية بطريق الإظهار دون الإضمار يؤذن بأن المراد بــــ { الذين كفروا } هنا غير الكافرين الذين تقدمت الحكاية عنهم فإن الحكاية عنهم كانت بطريق الإضمار. فالظاهر عندي أن المراد بــــ { الذين كفروا } هنا كفار قريش على طريقة التوجيه. وأن المراد بــــ { رُسُلِهم } الرسولُ ــــ محمّد صلى الله عليه وسلم أجريت على وصفه صيغة الجمع على طريق قوله: { { الذين كذبوا بالكتاب وبما أرسلنا به رسلنا فسوف يعلمون } في سورة غافر (70). فإن المراد المشركون من أهل مكة كما هو مقتضى قوله: فسوف يعلمون وقوله: { { لقد أرسلنا رسلنا بالبينات } [سورة الحديد: 25] إلى قوله: { { وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب } [سورة الحديد: 25]، فإن المراد بالرسل في الموضعين الأخيرين الرسول محمد عليه الصلاة والسلام لأنه الرسول الذي أنزل معه الحديد، أي القتال بالسيف لأهل الدعوة المكذبين، وقوله: { { فكذبوا رسلي } في سورة سبأ (45) على أحد تفسيرين في المراد بهم وهو أظهرهما.

وإطلاق صيغة الجمع على الواحد مجاز: إما استعارة إن كان فيه مراعاة تشبيه الواحد بالجمع تعظيماً له كما في قوله تعالى: { { قال رب ارجعون } [سورة المؤمنون: 99].

وإما مجاز مرسل إذا روعي فيه قصد التعمية، فعلاقته الإطلاق والتقييد. والعدول عن الحقيقة إليه لقصد التعمية.

فلا جرم أن يكون المراد بـ { الذين كفروا } هنا كفار مكة ويؤيده قوله بعد ذلك { ولنسكننكم الأرض من بعدهم } فإنه لا يعرف أن رسولاً من رسل الأمم السالفة دخل أرض مكذّبيه بعد هلاكهم وامتلكها إلا "النبي محمداً صلى الله عليه وسلم قال في حجة الوداع منزلُنا إن شاء الله غداً بالخَيْف خَيْفَ بني كنانة حيثُ تقاسموا على الكفر" .

وعلى تقدير أن يكون المراد بــــ { الذين كفروا } في هذه الآية نفس المراد من الأقوام السالفين فالإظهار في مقام الإضمار لزيادة تسجيل اتصافهم بالكفر حتى صار الخصلة التي يعرفون بها. وعلى هذا التقدير يكون المراد من الرسل ظاهرَ الجمع فيكون هذا التوعد سنة الأمم ويكون الإيماء إليهم به سنة الله مع رسله.

وتأكيد توعدهم بالإخراج بلام القسم ونون التوكيد ضراوة في الشر.

و(أو) لأحد الشيئين، أقسموا على حصول أحد الأمرين لا محالة، أحدهما من فعل المقسمين، والآخر من فعل مَن خوطب بالقسم، وليست هي { أو } التي بمعنى { إلى } أو بمعنى { إلاّ }.

والعود: الرجوع إلى شيء بعد مفارقته. ولم يكن أحد من الرسل متبعاً ملّة الكفر بل كانوا منعزلين عن المشركين دون تغيير عليهم، فكان المشركون يحسبونهم موافقين لهم، وكان الرسُل يتجنبون مجتمعاتهم بدون أن يشعروا بمجانبتهم، فلما جاءُوهم بالحق ظنّوهم قد انتقلوا من موافقتهم إلى مخالفتهم فطلبوا منهم أن يعودوا إلى ما كانوا يحسبونهم عليه.

والظرفية في قوله: { في ملتنا } مجازية مستعملة في التمكن من التلبس بالشيء المتروك فكأنه عاد إليه.

والملّة: الدين. وقد تقدم عند قوله تعالى: { { ديناً قيماً ملة إبراهيم حنيفاً } في آخر سورة الأنعام (161)، وانظر قوله: { { فاتبعوا ملة إبراهيم حنيفاً } في أوائل سورة آل عمران (95).

وتفريع جملة { فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين } على قول الذين كفروا لرسلهم { لنخرجنكم من أرضنا } [سورة إبراهيم: 13] الخ تفريع على ما يَقتضيه قول الذين كفروا من العزم على إخراج الرسل من الأرض، أي أوحى الله إلى الرسل ما يثبت به قلوبهم، وهو الوعد بإهلاك الظالمين.

وجملة { لنهلكن الظالمين } بيان لجملة (أوحى..).

وإسكان الأرض: التمكين منها وتخويلها إياهم، كقوله: { { وأورثكم أرضهم وديارهم } [سورة الأحزاب: 27].

والخطاب في { لنسكننكم } للرسل والذين آمنوا بهم، فلا يقتضي أن يسكن الرسول بأرض عدوه بل يكفي أن يكون له السلطان عليها وأن يسكنها المؤمنون، كما مكن الله لرسوله مكة وأرض الحجاز وأسكنها الذين آمنوا بعد فتحها.

{ ذَٰلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِى وَخَافَ وَعِيدِ }.

{ ذلك } إشارة إلى المذكور من الإهلاك والإسكان المأخوذين من { لنهلكن }، و{ لنسكننكم }. عاد إليهما اسم الإشارة بالإفراد بتأويل المذكور، كقوله: { { ومن يفعل ذلك يلق آثاماً } [سورة الفرقان: 68].

واللام للملك، أي ذلك عطاء وتمليك لمن خاف مقامي، كقوله تعالى: { { ذلك لمن خشي ربه } [سورة البينة: 8].

والمعنى: ذلك الوعد لمن خاف مقامي، أي ذلك لكم لأنكم خفتم مقامي، فعدل عن ضمير الخطاب إلى { من خاف مقامي } لدلالة الموصول على الإيماء إلى أن الصلة علة في حصول تلك العطية.

ومعنى { خاف مقامي } خافني، فلفظ { مقام } مقحم للمبالغة في تعلق الفعل بمفعوله، كقوله تعالى: { { ولمن خاف مقام ربه جنتان } [الرحمٰن: 46]، لأن المقام أصله مكان القيام، وأريد فيه بالقيام مطلق الوجود لأن الأشياء تعتبر قائمة، فإذا قيل { خاف مقامي } كان فيه من المبالغة ما ليس في (خافني) بحيث إن الخوف يتعلق بمكان المخوف منه. كما يقال: قصّر في جانبي. ومنه قوله تعالى: { { على ما فرطت في جنب الله } [سورة الزمر: 56]. وكل ذلك كناية عن المضاف إليه كقول زياد الأعجم:

إن السماحة والمروءة والندىفي قُبة ضُربت على ابن الحشرج

أي في ابن الحشرج من غير نظر إلى وجود قبة. ومنه ما في الحديث إن الله لما خلق الرحم أخذت بساق العرش وقالت: هذا مقام العائذ بك من القطيعة، أي هذا العائذ بك القطيعة.

وخوف الله: هو خوف غضبه لأن غضب الله أمر مكروه لدى عبيده.

وعطف جملة { وخاف وعيد } على { خاف مقامي } مع إعادة فعل { خاف } دون اكتفاء بعطف { وعيدي } على { مقامي } لأن هذه الصلة وإن كان صريحها ثناءً على المخاطبين فالمراد منها التعريض بالكافرين بأنهم لا يخافون وعيد الله، ولولا ذلك لكانت جملة { خاف مقامي } تغني عن هذه الجملة، فإن المشركين لم يعبأوا بوعيد الله وحسبوه عبثاً، قال تعالى: { { ويستعجلونك بالعذاب } [سورة الحج: 47]، ولذلك لم يجمع بينهما في سورة البينة (8) { { ذلك لمن خشي ربه } لأنه في سياق ذكر نعيم المؤمنين خاصة.

وهذه الآية في ذكر إهلاك الظالمين وإسكان المؤمنين أرضهم فكان المقام للفريقين، فجمع في جزاء المؤمنين بإدماج التعريض بوعي الكافرين، وفي الجمع بينهما دلالة على أن من حق المؤمن أن يخاف غضب ربه وأن يخاف وعيده، والذين يخافون غضب الله ووعيده هم المتقون الصالحون، فآل معنى الآية إلى معنى الآية الأخرى { { أن الأرض يرثها عبادي الصالحون } [سورة الأنبياء: 105].

وقرأ الجمهور { وعيد } بدون ياء وصلاً ووقفاً. وقرأه ورش عن نافع ــــ بدون ياء ــــ في الوقف وبإثباتها في الوصل. وقرأه يعقوب ــــ بإثبات الياء ــــ في حالي الوصل والوقف. وكل ذلك جائز في ياء المتكلم الواقعة مضافاً إليها في غير النداء. وفيها في النداء لغتان أخريان.