جملة { واستفتحوا } يجوز أن تكون معطوفة على جملة { فأوحى إليهم ربهم }، أو معترضة بين جملة { ولنسكننكم الأرض من بعدهم } وبين جملة { وخاب كل جبار عنيد }. والمعنى: أنهم استعجلوا النصر. وضمير { استفتحوا } عائد إلى الرسل، ويكون جملة { وخاب كل جبار عنيد } عطفاً على جملة { فأوحى إليهم ربهم } الخ، أي فوعدهم الله النصر وخاب الذين كفروا، أي لم يتحقق توعدهم الرسل بقولهم: { لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا }. ومقتضى الظاهر أن يقال: وخاب الذين كفروا، فعدل عنه إلى { كل جبار عنيد } للتنبيه على أن الذين كفروا كانوا جبابرة عنداء وأن كل جبار عنيد يخيب.
ويجوز أن تكون جملة { استفتحوا } عطفاً على جملة { وقال الذين كفروا لرسلهم } ويكون ضمير { استفتحوا } عائداً على الذين { كفروا }، أي وطلبوا النصر على رسلهم فخابوا في ذلك. ولكون في قوله: { وخاب كل جبار عنيد } إظهار في مقام الإضمار عدل عن أن يقال: وخابوا، إلى قوله: { كل جبار عنيد } لمثل الوجه الذي ذكر آنفاً.
والاستفتاح: طلب الفتح وهو النصر، قال تعالى:
{ { إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح } [سورة الأنفال: 19]. والجبار: المتعاظم الشديد التكبر.
والعنيد المعاند للحق. وتقدما في قوله:
{ { واتبعوا أمر كل جبار عنيد } في سورة هود (59). والمراد بهم المشركون المتعاظمون، فوصف { جبار } خلُق نفساني، ووصف { عنيد } من أثر وصف { جبار } لأن العنيد المكابر المعارض للحجة. وبين { خاف وعيد } و{ خاب كل جبار عنيد } جناس مصحف.
وقوله: { من ورائه جهنم } صفة لــــ { جبار عنيد }، أي خاب الجبّار العنيد في الدنيا وليس ذلك حظه من العقاب بل وراءه عقاب الآخرة.
والوراء: مستعمل في معنى ما ينتظره ويحل به من بعد، فاستعير لذلك بجامع الغفلة عن الحصول كالشيء الذي يكون من وراء المرء لا يشعر به لأنه لا يراه، كقوله تعالى:
{ { وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصباً } [سورة الكهف: 79]، أي وهم غافلون عنه ولو ظفر بهم لافتك سفينتهم، وقول هدبة بن خشرم: عسى الكرب الذي أمسيت فيهيكون وراءَه فَرج قريب
وأما إطلاق الوراء على معنى { من بَعْد } فاستعمال آخر قريب من هذا وليس عينه. والمعنى: أن جهنم تنتظره، أي فهو صائر إليها بعد موته.
والصديد: المُهلة، أي مثل الماء يسيل من الدمل ونحوه، وجعل الصديد ماء على التشبيه البليغ في الإسقاء، لأن شأن الماء أن يُسْقى. والمعنى: ويسقى صديداً عوض الماء إن طلب الإسقاء، ولذلك جعل { صديد } عطفَ بيان لــــ { ماء }. وهذا من وجوه التشبيه البليغ.
وعطف جملة { يسقى } على جملة { من ورائه جهنم } لأن السقي من الصديد شيء زائد على نار جهنم.
والتجرع: تكلف الجَرْع، والجرع؛ بلع الماء.
ومعنى { يُسيغه } يفعل سوغه في حلقه. والسوغ؛ انحدار الشراب في الحلق بدون غصة، وذلك إذا كان الشراب غير كريه الطعم ولا الريح، يقال ساغ الشراب، وشراب سائغ. ومعنى { لا يكاد يسيغه } لا يقارب أن يسيغه فضلاً عن أن يسيغه بالفعل، كما تقدم في قوله تعالى:
{ { وما كادوا يفعلون } في سورة البقرة (71). وإتيان الموت: حلوله، أي حلول آلامه وسكراته، قال قيس بن الخطيم:
متى يأت هذا الموت لا يلف حاجةلنفسي إلا قد قضيت قضاءها
بقرينة قوله: { وما هو بميت }، أي فيستريح. والكلام على قوله: { ومن وراءه عذاب غليظ } مثل الكلام في قوله: { من ورائه جهنم }، أي ينتظره عذاب آخر بعد العذاب الذي هو فيه.
والغليظ: حقيقته الخشن الجسم، وهو مستعمل هنا في القوة والشدة بجامع الوفرة في كل، أي عذاب ليس بأخف مما هو فيه. وتقدم عند قوله:
{ { ونجيناهم من عذاب غليظ } في سورة هود (58).