خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي ٱلسَّمَآءِ
٢٤
تُؤْتِيۤ أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ ٱللَّهُ ٱلأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ
٢٥
وَمَثلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ ٱجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ ٱلأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ
٢٦
-إبراهيم

التحرير والتنوير

استئناف ابتدائي اقتضته مناسبة ما حكي عن أحوال أهل الضلالة وأحوال أهل الهداية ابتداء من قوله تعالى: { وبرزوا لله جميعاً } إلى قوله { تحيتهم فيها سلام }، فضرب الله مثلاً لكلمة الإيمان وكلمة الشرك. فقوله: { ألم تر كيف ضرب الله مثلاً } إيقاظ للذهن ليترقب ما يرد بعد هذا الكلام، وذلك مثل قولهم: ألم تعلم. ولم يكن هذا المثَل مما سبق ضربه قبل نزول الآية بل الآية هي التي جاءت به، فالكلام تشويق إلى علم هذا المثل. وصوغ التشويق إليه في صيغة الزمن الماضي الدال عليها حرف { لَمْ } التي هي لنفي الفعل في الزمن الماضي والدالّ عليها فعل { ضرب } بصيغة الماضي لقصد الزيادة في التشويق لمعرفة هذا المثل وما مثل به.

والاستفهام في { ألم تر } إنكاري، نُزل المخاطب منزلة من لم يعلم فأنكر عليه عدم العلم، أو هو مستعمل في التعجيب من عدم العلم بذلك مع أنه مما تتوفر الدواعي على علمه، أو هو للتقرير، ومثله في التقرير كثير، وهو كناية عن التحريض على العلم بذلك.

والخطاب لكل من يصلح للخطاب. والرؤية علمية معلّق فعلها عن العمل بما وليها من الاستفهام بــــ { كيف }. وإيثار { كيف } هنا للدلالة على أن حالة ضرب هذا المثل ذات كيفية عجيبة من بلاغته وانطباقه.

وتقدم المثَل في قوله: { { مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً } في سورة البقرة (17).

وضَرْب المثل: نَظْم تركيبه الدال على تشبيه الحالة. وتقدم عند قوله: { { أن يضرب مثلاً ما } في سورة البقرة (26).

وإسناد { ضرب } إلى اسم الجلالة لأن الله أوحى به إلى رسوله ــــ عليه الصلاة والسلام ــــ.

والمثَل لما كان معنى متضمناً عدة أشياء صح الاقتصار في تعليق فعل { ضرب } به على وجه إجمال يفسره قوله: { كلمة طيبة كشجرة } إلى آخره، فانتصب { كلمة } على البدلية من { مثلاً } بدلَ مفصّل من مجمل، لأن المثل يتعلق بها لما تدل عليه الإضافة في نظيره في قوله: { ومثل كلمة خبيثة }.

والكلمة الطيبة قيل: هي كلمة الإسلام، وهي: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله والكلمة الخبيثة: كلمة الشرك.

والطيبة: النافعة. استعير الطيب للنفع لحُسن وقعه في النفوس كوقع الروائح الذكية. وتقدم عند قوله تعالى: { { وجرين بهم بريح طيبة } في سورة يونس (22).

والفَرع: ما امتد من الشيء وعَلا، مشتق من الافتراع وهو الاعتلاء. وفرع الشجرة غصنها، وأصل الشجرة: جذرها.

والسماء مستعمل في الارتفاع، وذلك مما يزيد الشجرة بهجة وحسن منظر.

والأُكْل بضم الهمزة المأكول، وإضافته إلى ضمير الشجرة على معنى اللام. وتقدم عند قوله: { { ونفضل بعضها على بعض في الأكل } في سورة الرعد (4).

فالمشبّه هو الهيئة الحاصلة من البهجة في الحس والفرح في النفس، وازدياد أصول النفع باكتساب المنافع المتتالية بهيئة رُسوخ الأصل، وجمال المنظر، ونماء أغصان الأشجار. ووفرة الثِمار، ومتعة أكلها. وكل جزء من أجزاء إحدى الهيئتين يقابله الجزء الآخر من الهيئة الأخرى، وذلك أكمل أحوال التمثيل أن يكون قابلاً لجمع التشبيه وتفريقه.

وكذلك القول في تمثيل حال الكلمة الخبيثة بالشجرة الخبيثة على الضد بجميع الصفات الماضية من اضطراب الاعتقاد، وضيق الصدر، وكدر التفكير، والضر المتعاقب. وقد اختصر فيها التمثيل اختصاراً اكتفاءً بالمضاد، فانتفت عنها سائر المنافع للكلمة الطيبة.

وفي جامع الترمذي عن أنس بن مالك ــــ رضي الله عنه ــــ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "مثل كلمة طيّبة كشجرة طيّبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها" قال: هي النخلة، { ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار } قال: هي الحَنْظَل.

وجملة { اجتثت من فوق الأرض } صفة لــــ{ شجرة خبيثة } لأن الناس لا يتركونها تلتف على الأشجار فتقتلها. والاجتثاث: قطع الشيء كلّه، مشتق من الجُثة وهي الذات. و{ من فوق الأرض } تصوير لــــ { اجتثت }. وهذا مقابل قوله في صفة الشجرة الطيبة { أصلها ثابت وفرعها في السماء }.

وجملة { ما لها من قرار } تأكيد لمعنى الاجتثاث لأن الاجتثاث من انعدام القرار.

والأظهر أن المراد بالكلمة الطيّبة القرآن وإرشاده، وبالكلمة الخبيثة تعاليم أهل الشرك وعقائدهم، فــــ (الكلمة) في الموضعين مطلقة على القول والكلام، كما دل عليه قوله: { يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت }. والمقصود مَعَ التمثيل إظهارُ المقابلة بين الحالين إلا أن الغرض في هذا المقام بتمثيل كل حالة على حدة بخلاف ما يأتي عند قوله تعالى في سورة النحل { ضرب الله مثلا عبداً مملوكا } إلى قوله { ومن رزقناه منا رزقاً حسناً }، فانظر بيانه هنالك.

وجملة { ويضرب الله الأمثال للناس } معترضة بين الجملتين المتعاطفتين. والواو واو الاعتراض. ومعنى (لعل) رجاء تذكرهم، أي تهيئة التذكر لهم، وقد مضت نظائرها.