خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ ٱللَّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلاَ تَنقُضُواْ ٱلأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ ٱللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ ٱللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ
٩١
-النحل

التحرير والتنوير

لما أمر الله المؤمنين بملاك المصالح ونهاهم عن ملاك المفاسد بما أومأ إليه قوله: { يعظكم لعلكم تذكرون } [سورة النحل: 90]. فكان ذلك مناسبة حسنة لهذا الانتقال الذي هو من أغراض تفنّن القرآن، وأوضح لهم أنهم قد صاروا إلى كمال وخير بذلك الكتاب المبيّن لكل شيء. لا جرم ذكرهم الوفاء بالعهد الذي عاهدوا الله عليه عندما أسلموا، وهو ما بايعوا عليه النبي مما فيه: أن لا يعصوه في معروف. وقد كان النبي يأخذ البيعة على كل من أسلم من وقت ابتداء الإسلام في مكّة.

وتكررت البيعة قبيل الهجرة وبعدها على أمور أخرى، مثل النّصرة التي بايع عليها الأنصار ليلة العقبة، ومثل بيعة الحديبية.

والخطاب للمسلمين في الحفاظ على عهدهم بحفظ الشريعة، وإضافة العهد إلى الله لأنهم عاهدوا النبي على الإسلام الذي دعاهم الله إليه، فهم قد عاهدوا الله كما قال: { { إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله } [سورة الفتح: 10]، وقال: { { من المؤمنين رجال صَدقوا ما عاهدوا الله عليه } [سورة الأحزاب: 23]. والمقصود: تحذير الذين كانوا حديثي عهد بالإسلام من أن ينقضوا عهد الله.

و{ إذا } لمجرّد الظرفية، لأنّ المخاطبين قد عاهدوا الله على الإيمان والطاعة، فالإتيان باسم الزمان لتأكيد الوفاء. فالمعنى: أن من عاهد وجب عليه الوفاء بالعهد. والقرينة على ذلك قوله: { ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلاً } }. [سورة النحل: 91] والعهد: الحلف. وتقدّم في قوله تعالى: { الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه }. وكذلك النقض تقدم في تلك الآية، ونقض الأيمان: إبطال ما كانت لأجله. فالنقض إبطال المحْلوف عليه لا إبطال القسم، فجُعِل إبطال المحلوف عليه نقضاً لليمين في قوله: { ولا تنقضوا الأيمان } تهويلاً وتغليظاً للنّقض لأنه نقض لحرمة اليمين.

و{ بعد توكيدها } زيادة في التحذير، وليس قيْداً للنّهي بالبعدية، إذ المقصود أيمان معلومة وهي أيمان العهد والبيعة، وليست فيها بعدية.

و{ بعد } هنا بمعنى (مع)، إذ البعدية والمعيّة أثرهما واحد هنا، وهو حصول توثيق الأيمان وتوكيدها، كقول الشميذر الحارثي:

بني عمّنا لا تذكروا الشعر بعدمادفنتم بصحراء الغُمَيْر القوافيا

أي لا تذكروا أنّكم شعراء وأن لكم شعراً، أو لا تنطقوا بشعر مع وجود أسباب الإمساك عنه في وقعة صحراء الغُمير، وقوله تعالى: { { بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان } [سورة الحجرات: 11]، وقوله: الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه.

والتّوكيد: التوثيق وتكرير الفتل، وليس هو توكيد اللفظ كما توهّمه بعضهم فهو ضدّ النقض. وإضافته إلى ضمير { الأيمان } ليس من إضافة المصدر إلى فاعله ولا إلى مفعوله إذ لم يقصد بالمصدر التجدّد بل الاسم، فهي الإضافة الأصلية على معنى اللام، أي التوكيد الثابت لها المختصّ بها. والمعنى: بعد ما فيها من التوكيد، وبيّنه قوله: { وقد جعلتم الله عليكم كفيلاً }.

والمعنى: ولا تنقضوا الأيمان بعد حلفها. وليس في الآية إشعار بأن من اليمين ما لا حرج في نقضه، وهو ما سمّوه يمين اللّغو، وذلك انزلاق عن مهيع النظم القرآني.

ويؤيّد ما فسرناه قوله: { وقد جعلتم الله عليكم كفيلاً } الواقع موقع الحال من ضمير { لا تنقضوا }، أي لا تنقضوا الأيمان في حال جعلكم الله كفيلاً على أنفسكم إذا أقسمتم باسمه، فإن مدلول القسم أنه إشهاد الله بصدق ما يقوله المقسم: فيأتي باسم الله كالإتيان بذات الشاهد. ولذلك سُمّيَ الحلف شهادة في مواضع كثيرة، كقوله: { { فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين } [سورة النور: 6]. والمعنى أن هذه الحالة أظهر في استحقاق النّهي عنها.

والكفيل: الشاهد والضامن والرقيب على الشيء المراعى لتحقيق الغرض منه.

والمعنى: أن القسم باسم الله إشهاد لله وكفالة به. وقد كانوا عند العهد يحلفون ويشهدون الكفلاء بالتنفيذ، قال الحارث بن حلّزة:

واذكروا حلف ذي المجاز وما قُدّم فيه العهود والكفلاء

و{ عليكم } متعلّق بــــ{ جعلتم } لا بــــ{ كفيلاً } أي أقمتموه على أنفسكم مقام الكفيل، أي فهو الكفيل والمكفول له من باب قولهم: أنت الخصم والحكم، وقوله تعالى: { { وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه } [سورة التوبة: 118].

وجملة { إن الله يعلم ما تفعلون } معترضة. وهي خبر مراد منه التحذير من التساهل في التمسّك بالإيمان والإسلام لتذكيرهم أن الله يطّلع على ما يفعلونه، فالتوكيد بــــ{ إن } للاهتمام بالخبر.

وكذلك التأكيد ببناء الجملة بالمسند الفعلي دون أن يقال: إن الله عليم، ولا: قد يعلم الله.

واختير الفعل المضارع في { يعلم } وفي { تفعلون } لدلالته على التجدّد، أي كلما فعلوا فعلاً فالله يعلمه.

والمقصود من هذه الجمل كلها من قوله: { وأوفوا بعهد الله } إلى هنا تأكيد الوصاية بحفظ عهد الأيمان. وعدم الارتداد إلى الكفر، وسدّ مداخل فتنة المشركين إلى نفوس المسلمين، إذ يصدّونهم عن سبيل الإسلام بفنون الصدّ، كقولهم: { نحن أكثر أموالاً وأولاداً وما نحن بمعذبين } [سورة سبأ: 35]، كما أشار إليه قوله تعالى: { { وكذلك فتنّا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء منّ الله عليهم من بيننا أليس الله بأعلم بالشاكرين } }. وقد تقدم ذلك في سورة الأنعام (53).

ولم يذكر المفسّرون سبباً لنزول هذه الآية، وليست بحاجة إلى سبب. وذكروا في الآية الآتية وهي قوله: { { من كفر بالله من بعد إيمانه } [سورة النحل: 106] أن آية { وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم } إلى آخرها نزلت في الذين رجعوا إلى الكفر بعد الإيمان لما فتنهم المشركون كما سيأتي، فجعلوا بين الآيتين اتصالاً.

قال في «الكشاف»: كأن قوماً ممن أسلم بمكة زَيّنَ لهم الشيطان لجزعهم ما رأوا من غلبة قريش واستضعافهم المسلمين وإيذائهم لهم، ولِمَا كانوا يَعِدونهم إن رجعوا من المواعيد أن ينقضوا ما بايعوا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فثبّتهم الله ا هــــ. يريد أن لهجة التحذير في هذا الكلام إلى قوله: { { إنما يبلوكم الله به } [سورة النحل: 92] تنبىء عن حالة من الوسوسة داخلت قلوب بعض حديثي الإسلام فنبّأهم الله بها وحذّرهم منها فسلموا.