خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّىٰ تَفْجُرَ لَنَا مِنَ ٱلأَرْضِ يَنْبُوعاً
٩٠
أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ ٱلأَنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيراً
٩١
أَوْ تُسْقِطَ ٱلسَّمَآءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِٱللَّهِ وَٱلْمَلاۤئِكَةِ قَبِيلاً
٩٢
أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَىٰ فِي ٱلسَّمَآءِ وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نَّقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إِلاَّ بَشَراً رَّسُولاً
٩٣
-الإسراء

التحرير والتنوير

عطف جملة { وقالوا } على جملة { فأبى أكثر الناس إلا كفورا } [الإسراء: 89]، أي كفروا بالقرآن وطالبوا بمعجزات أخرى.

وضمير الجمع عائد إلى أكثر الناس الذين أبوا إلا كفوراً، باعتبار صدور هذا القول بينهم وهم راضون به ومتمالئون عليه متى علموه، فلا يلزم أن يكون كل واحد منهم قال هذا القول كله بل يكون بعضهم قائلاً جميعه أو بعضهم قائلاً بعضه.

ولما اشتمل قولهم على ضمائر الخطاب تعين أن بعضهم خاطب به النبي صلى الله عليه وسلم مباشرة إما في مقام واحد وإما في مقامات. وقد ذكر ابن إسحاق: أن عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وأبا سفيان بن حرب، والأسود بن المطلب، وزمعة بن الأسود، والوليد بن المغيرة، وأبا جهل بن هشام، وعبد الله بن أبي أمية، وأمية بن خلف، وناساً معهم اجتمعوا بعد غروب الشمس عند الكعبة وبعثوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم أن يأتيهم. فأسرع إليهم حرصاً على هداهم، فعاتبوه على تسفيه أحلامهم والطعن في دينهم. وعرضوا عليه ما يشاء من مال أو تسويد. وأجابهم بأنه رسول من الله إليهم لا يبتغي غير نصحهم، فلما رأوا منه الثبات انتقلوا إلى طلب بعض ما حكاه الله عنهم في هذه الآية.

وروي أن الذي سأل ما حكي بقوله تعالى: { أو ترقى في السماء } إلى آخره، هو عبد الله بن أبي أمية المخزومي.

وحكى الله امتناعم عن الإيمان بحرف (لن) المفيد للتأييد لأنهم كذلك قالوه.

والمراد بالأرض: أرض مكة، فالتعريف للعهد. ووجه تخصيصها أن أرضها قليلة المياه بعيدة عن الجنات.

والتفجير: مصدر فجر بالتشديد مبالغة في الفَجْر، وهو الشق باتساع. ومنه سمي فجر الصباح فجراً لأن الضوء يشق الظلمة شقاً طويلاً عريضاً، فالتفجير أشد من مطلق الفجر وهو تشقيق شديد باعتبار اتساعه. ولذلك ناسب الينبوع هنا والنهر في قوله تعالى: { وفجرنا خلالها نهراً } [الكهف: 33] وقوله: { فتفجر الأنهار }.

وقرأه الجمهور ــــ بضم التاء وتشديد الجيم ــــ على أنه مضارع (فجر) المضاعف. وقرأه عاصم، وحمزة، والكسائي، وخلف ــــ بفتح التاء وسكون الفاء وضم الجيم مخففة ــــ على أنه مضارع فجر كنصَر، فلا التفات فيها للمبالغة لأن الينبوع يدل على المقصود أو يعبر عن مختلف أقوالهم الدالة على التصميم في الامتناع.

ومعنى { لن نؤمن لك } لن نصدقك أنك رسول الله إلينا.

والإيمان: التصديق. يقال: آمنه، أي صدقه. وكثر أن يعدى إلى المفعول باللام، قال تعالى: { وما أنت بمؤمن لنا } [يوسف: 17] وقال:{ { فآمن له لوط } [العنكبوت: 26]. وهذه اللام من قبيل ما سماه في مغني اللبيب لام التبيين. وغفل عن التمثيل لها بهذه الآية ونحوها، فإن مجرور اللام بعد فعل { نؤمن } مفعول لا التباس له بالفاعل وإنما تذكر اللام لزيادة البيان والتوكيد. وقد يقال: إنها لدفع التباس مفعول فعل «آمن» بمعنى صدق بمفعول فعل (آمن) إذا جعله أميناً. وتقدم قوله تعالى؛ { فما آمن لموسى إلا ذرية من قومه } في سورة [يونس: 83].

والينبوع: اسم للعين الكثيرة النبع التي لا ينضب ماؤها. وصيغة يفعول صيغة مبالغة غير قياسية، والينبوع مشتقة من مادة النبع؛ غير أن الأسماء الواردة على هذه الصيغة مختلفة، فبعضها ظاهر اشتقاقه كالينبوع والينبوت، وبعضها خفي كاليعبوب للفرس الكثير الجري. وقيل: اشتق من العَب المجازي. ومنه أسماء معربة جاء تعريبها على وزن يفعول مثل؛ يَكْسوم اسم قائد حبشي، ويرموك اسم نهر. وقد استقرى الحسن الصاغاني ما جاء من الكلمات في العربية على وزن يفعول في مختصر له مرتب على حروف المعجم. وقال السيوطي في المزهر: إن ابن دريد عقد له في «الجمهرة» باباً.

والجنة، والنخيل، والعنب، والأنهار تقدمت في قوله: { أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب تجري من تحتها الأنهار } في سورة [البقرة: 266].

وخصوا هذه الجنة بأن تكون له، لأن شأن الجنة أن تكون خاصة لملك واحد معين، فأروه أنهم لا يبتغون من هذا الاقتراح نفع أنفسهم ولكنهم يبتغون حصوله ولو كان لفائدة المقترح عليه. والمقترح هو تفجير الماء في الأرض القاحلة، وإنما ذكروا وجود الجنة تمهيداً لتفجير أنهار خلالها فكأنهم قالوا: حتى تفجر لنا ينبوعاً يسقي الناس كلهم، أو تفجر أنهاراً تسقي جنة واحدة تكون تلك الجنة وأنهارها لك. فنحن مقتنعون بحصول ذلك لا بغية الانتفاع منه. وهذا كقولهم: { أو يكون لك بيت من زخرف }.

وذكر المفعول المطلق بقوله: { تفجيراً } للدلالة على التكثير لأن { تُفجر } قد كفى في الدلالة على المبالغة في الفَجْر، فتعين أن يكون الإتيان بمفعوله المطلق للمبالغة في العدد، كقوله تعالى: { ونزلناه تنزيلاً } [الإسراء: 106]، وهو المناسب لقوله: { خلالها }، لأن الجنة تتخللها شعب النهر لسقي الأشجار. فجمع الأنهار باعتبار تشعب ماء النهر إلى شعب عديدة. ويدل لهذا المعنى إجماع القراء على قراءة { فتفجر } هنا بالتشديد مع اختلافهم في الذي قبله. وهذا من لطائف معاني القراءات المروية عن النبي صلى الله عليه وسلم فهي من أفانين إعجاز القرآن.

وقولهم: { أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفاً } انتقال من تحديه بخوارق فيها منافع لهم إلى تحديه بخوارق فيها مضرتهم، يريدون بذلك التوسيع عليه، أي فليأتهم بآية على ذلك ولو في مضرتهم. وهذا حكاية لقولهم كما قالوا. ولعلهم أرادوا به الإغراق في التعجيب من ذلك فجمعوا بين جعل الإسقاط لنفس السماء. وعززوا تعجيبهم بالجملة المعترضة وهي { كما زعمت } إنباء بأن ذلك لا يصدق به أحد. وعنوا به قوله تعالى: { إن نشأ نخسف بهم الأرض أو نسقط عليهم كسفاً من السماء } [سبأ: 9] وبقوله: { وإن يروا كسفاً من السماء ساقطاً يقولوا سحاب مركوم } [الطور: 44]، إذ هو تهديد لهم بأشراط الساعة وإشرافهم على الحساب. وجعلوا (من) في قوله تعالى: { كسفاً من السماء } [الطور: 44] تبعيضية، أي قطعة من الأجرام السماوية، فلذلك أبوا تعدية فعل { تسقط } إلى ذات السماء. واعلم أن هذا يقتضي أن تكون هاتان الآيتان أو إحداها نزلت قبل سورة الإسراء وليس ذلك بمستبعد.

و «الكسف» ــــ بكسر الكاف وفتح السين ــــ جمع كسْفة، وهي القطعة من الشيء مثل سِدرة وسدر. وكذلك قرأه نافع، وابن عامر، وأبو بكر عن عاصم، وأبو جعفر. وقرأه الباقون ــــ بسكون السين ــــ بمعنى المفعول، أي المكسوف بمعنى المقطوع.

والزعم: القول المستبعد أو المحال.

والقبيل: الجماعة من جنس واحد. وهو منصوب على الحال من الملائكة، أي هم قبيل خاص غير معروف، كأنهم قالوا: أو تأتي بفريق من جنس الملائكة.

والزخرف: الذهب.

وإنما عدي { ترقى في السماء } بحرف (في) الظرفية للإشارة إلى أن الرقي تدرج في السماوات كمن يصعد في المرقاة والسلم.

ثم تفننوا في الاقتراح فسألوه إن رقى أن يرسل إليهم بكتاب ينزل من السماء يقرؤونه، فيه شهادة بأنه بلغ السماء. قيل: قائل ذلك عبد الله بن أبي أمية، قال: حتى تأتينا بكتاب معه أربعة من الملائكة يشهدون لك.

ولعلهم إنما أرادوا أن ينزل عليهم من السماء كتاباً كاملاً دفعة واحدة، فيكونوا قد ألحدوا بتنجيم القرآن، توهماً بأن تنجيمه لا يناسب كونه منزلاً من عند الله لأن التنجيم عندهم يقتضي التأمل والتصنع في تأليفه، ولذلك يكثر في القرآن بيان حكمة تنجيمه.

واللام في قوله: { لرقيك } يجوز أن تكون لام التبيين. على أن «رقيك» مفعول { نؤمن } مثل قوله: { لن نؤمن لك } فيكون ادعاء الرقي منفياً عنه التصديق حتى ينزل عليهم كتاب. ويجوز أن تكون اللام لام العلة ومفعول { نؤمن } محذوفاً دل عليه قوله قبله: { لن نؤمن لك }. والتقدير: لن نصدقك لأجل رقيك هي تنزل علينا كتاباً. والمعنى: أنه لو رقى في السماء لكذبوا أعينهم حتى يرسل إليهم كتاباً يرونه نازلاً من السماء. وهذا تورك منهم وتهكم.

ولما كان اقتراحهم اقتراح مُلاجّة وعناد أمره الله بأن يجيبهم بما يدل على التعجب من كلامهم بكلمة { سبحان ربي } التي تستعمل في التعجب كما تقدم في طالع هذه السورة، ثم بالاستفهام الإنكاري، وصيغة الحصر المقتضية قصر نفسه على البشرية والرسالة قصراً إضافياً، أي لستُ رباً متصرفاً أخلق ما يطلب مني، فكيف آتي بالله والملائكة وكيف أخلق في الأرض ما لم يخلق فيها.

وقرأ الجمهور { قل } بصيغة فعل الأمر. وقرأه ابن كثير، وابن عامر { قال } بألف بعد القاف بصيغة الماضي ــــ على أنه حكاية لجواب الرسول صلى الله عليه وسلم عن قولهم: { لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعاً } على طريقة الالتفات.