خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

إِذْ أَوَى ٱلْفِتْيَةُ إِلَى ٱلْكَهْفِ فَقَالُواْ رَبَّنَآ آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّىءْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَداً
١٠
-الكهف

التحرير والتنوير

(إذ) ظرف مضاف إلى الجملة بعده، وهو متعلق بــــ { { كانوا } [الكهف: 9] فتكون هذه الجملة متصلة بالتي قبلها.

ويجوز كون الظرف متعلقاً بفعل محذوف تقديره: اذكر، فتكون مستأنفة استئنافاً بيانياً للجملة التي قبلها. وأياً ما كان فالمقصود إجمال قصتهم ابتداء، تنبيهاً على أن قصتهم ليست أعجب آيات الله، مع التنبيه على أن ما أكرمهم الله به من العناية إنما كان تأييداً لهم لأجل إيمانهم، فلذلك عطف عليه قوله: { فقالوا ربنا آتنا من لدنك رحمة }.

وأوى أُوِياً إلى المكان: جعله مسكناً له، فالمكان: المَأْوَى. وقد تقدم عند قوله تعالى: { { أولئك مأواهم النار بما كانوا يكسبون } في سورة يونس (8).

والفتية: جمع قلة لفتى، وهو الشاب المكتمل. وتقدم عند قوله تعالى في سورة يوسف. والمراد بالفتية: أصحاب الكهف. وهذا من الإظهار في مقام الإضمار لأن مقتضى الظاهر أن يقال: إذ أووا، فعدل عن ذلك لما يدل عليه لفظ الفتية من كونهم أتراباً متقاربي السن. وذكرهم بهذا الوصف للإيماء إلى ما فيه من اكتمال خُلق الرجولية المعبر عنه بالفتوة الجامع لمعنى سداد الرأي، وثبات الجأش، والدفاع عن الحق، ولذلك عدل عن الإضمار فلم يقل: إذ أووا إلى الكهف.

ودلت الفاء في جملة { فقالوا } على أنهم لما أووا إلى الكهف بادروا بالابتهال إلى الله.

ودعوا الله أن يؤتيهم رحمة من لدنه، وذلك جامع لخير الدنيا والآخرة، أي أن يمن عليهم برحمة عظيمة تناسب عنايته باتباع الدين الذي أمر به، فزيادة { من لدنك } للتعلق بفعل الإيتاء تشير إلى ذلك، لأن في (من) معنى الابتداء وفي (لدن) معنى العندية والانتساب إليه، فذلك أبلغ مما لو قالوا: آتنا رحمة، لأن الخلق كلهم بمحل الرحمة من الله، ولكنهم سألوا رحمة خاصة وافرة في حين توقع ضدها، وقصدوا الأمن على إيمانهم من الفتنة، ولئلا يلاقوا في اغترابهم مشقة وألماً، وأن لا يهينهم أعداء الدين فيصيروا فتنة للقوم الكافرين.

ثم سألوا الله أن يقدر لهم أحوالاً تكون عاقبتها حصول ما خولهم من الثبات على الدين الحق والنجاة من مناواة المشركين. فعبر عن ذلك التقدير بالتهيئة التي هي إعداد أسباب حصول الشيء.

و (من) في قوله: { من أمرنا } ابتدائية.

والأمر هنا: الشأن والحال الذي يكونون فيه، وهو مجموع الإيمان والاعتصام إلى محل العزلة عن أهل الشرك. وقد أعد الله لهم من الأحوال ما به رشدهم. فمن ذلك صرف أعدائهم عن تتبعهم، وأن ألهمهم موضع الكهف، وأن كان وضعه على جهة صالحة ببقاء أجسامهم سليمةً، وأن أنامهم نوماً طويلاً ليمضي عليهم الزمن الذي تتغير فيه أحوال المدينة، وحصل رَشَدهم إذ ثبتوا على الدين الحق وشاهدوه منصوراً متبعاً، وجعلهم آية للناس على صدق الدين وعلى قدرة الله وعلى البعث.

والرَّشد ــــ بفتحتين ــــ: الخير وإصابة الحق والنفع والصلاح، وقد تكرر في سورة الجن باختلاف هذه المعاني. والرُشد ــــ بضم الراء وسكون الشين ــــ مرادف الرَّشَد. وغلب في حسن تدْبير المال. لم يقرأ هذا اللفظ هنا في القراءات المشهورة إلا ــــ بفتح الراء ــــ بخلاف قوله تعالى: { { قد تبين الرشد من الغي } في البقرة (256)، وقوله: { { فإن آنستم منهم رشداً } في سورة النساء (6) فلم يقرأ فيهما إلا بضم الراء.

ووجه إيثار مفتوح الراء والشين في هذه السورة في هذا الموضع وفي قوله الآتي: { { وقل عسى أن يهدين ربي لأقرب من هذا رشدا } [الكهف: 24]: أن تحريك الحرفين فيهما أنسب بالكلمات الواقعة في قرائن الفواصل؛ ألا ترى أن الجمهور قرؤوا قوله في هذه السورة: { { على أن تعلمني مما علمت رشدا } [الكهف: 66] ـــ بضم الراء لأنه أنسب بالقرائن المجاورة له وهي { { من لدنا علماً } [الكهف: 65] { { معي صبراً } [الكهف: 67] { { ما لم تحط به خُبرا } [الكهف: 68] { { ولا أعصي لك أمراً } [الكهف: 69] إلى آخره. ولم يقرأه هنالك بفتح الراء والشين إلا أبو عمرو ويعقوب.