خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَٱتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي ٱلْبَحْرِ سَرَباً
٦١
فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَٰهُ آتِنَا غَدَآءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هَـٰذَا نَصَباً
٦٢
قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَآ إِلَى ٱلصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ ٱلْحُوتَ وَمَآ أَنْسَانِيهُ إِلاَّ ٱلشَّيْطَٰنُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَٱتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي ٱلْبَحْرِ عَجَباً
٦٣
-الكهف

التحرير والتنوير

الفاء للتفريع والفصيحة لأنها تفصح عن كلام مقدر، أي فسارا حتى بلغا مجمع البحرين. وضمير { بينهما } عائد إلى البحرين، أي محلا يجمع بين البحرين. وأضيف (مجمع) إلى (بين) على سبيل التوسع، فإن (بين) اسم لمكان متوسط شيئين، وشأنه في اللغة أن يكون ظرفاً للفعل، ولكنه قد يستعمل لمجرد مكان متوسط إما بالإضافةِ كما هنا، ومنه قوله تعالى: { { يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم } [المائدة: 106]، وهو بمنزلة إضافة المصدر أو اسم الفاعل إلى معمولة؛ أو بدون إضافة توسعاً كقوله تعالى: { { لقد تقطع بينكم } [الأنعام: 94] في قراءة من قرأ برفع بينكم.

والحوت هو الذي أمر الله موسى باستصحابه معه ليكون له علامة على المكان الذي فيه الخضر كما تقدم في سياق الحديث. والنسيان تقدم في قوله تعالى: { { أو ننسها } في سورة البقرة (106).

ومعنى نسيانهما أنهما نسيا أن يراقبا حاله أباقٍ هو في مِكتله حينئذٍ حتى إذا فقداه في مقامهما ذلك تحققا أن ذلك الموضع الذي فقداه فيه هو الموضع المؤقت لهما بتلك العلامة فلا يزيدا تعباً في المشي، فإسناد النسيان إليهما حقيقة، لأن يوشع وإن كان هو الموكل بحفظ الحوت فكان عليه مراقبته إلا أن موسى هو القاصد لهذا العمل فكان يهمه تعهده ومراقبته. وهذا يدل على أن صاحب العمل أو الحاجة إذا وَكَله إلى غيره لا ينبغي له ترك تعهده. ثم إن موسى عليه السلام نام وبقي فتاه يقظان فاضطرب الحوت وجعل لنفسه طريقاً في البحر.

والسرَب: النفق. والاتخاذ: الجعل. وقد انتصب سرباً } على الحال من { سبيله } مراداً بالحال التشبيه، كقول امرىء القيس:

إذا قامتا تضوّع المسك منهمانسيمَ الصبا جاءت بِريّا القرَنفل

وقد مر تفسير كيف اتخذ البحر سرباً في الحديث السابق عن أبَيّ بن كعب.

وحذف مفعول { جاوزا } للعلم، أي جاوزا مجمع البحرين.

والغداء: طعام النهار مشتق من كلمة الغدوة لأنه يُؤكل في وقت الغَدوة، وضده العشاء، وهو طعام العشي. والنصب: التعب.

والصخرة: صخرة معهودة لهما، إذ كانا قد أويا إليها في سيرهما فجلسا عليها، وكانت في مجمع البحرين. قيل: إن موضعها دون نهر يقال له: نهر الزيت، لكثرة ما عنده من شجر الزيتون.

وقوله: { نسيت الحوت } أي نسيت حفظه وافتقاده، أي فانفلت في البحر.

وقوله: { وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره }. هذا نسيان آخر غير النسيان الأول، فهذا نسيان ذكر الإخبار عنه.

وقرأ حفص عن عاصم { وما أنسانيه } ــــ بضم هاء ــــ الضمير على أصل الضمير وهي لغة. والكسر أشهر لأن حركة الكسرة بعد الياء أخف.

و{ أن أذكره } بدل اشتمال من ضمير { أنسانيه } لا من الحوت، والمعنى: ما أنساني أن أذكره لك إلا الشيطان. فالذكر هنا ذكر اللسان.

ووجه حصره إسناد هذا الإنساء إلى الشيطان أن ما حصل له من نسيان أن يخبر موسى بتلك الحادثة نسيان ليس من شأنه أن يقع في زمن قريب مع شدة الاهتمام بالأمر المنسي وشدة عنايته بإخبار نبيئه به. ومع كون المنسي أعجوبة شأنها أن لا تنسى يتعين أن الشيطان ألهاه بأشياء عن أن يتذكر ذلك الحادث العجيب وعلم يوشع أن الشيطان يَسوءه التقاء هذين العبدين الصالحين، وما له من الأثر في بث العلوم الصالحة فهو يصرف عنها ولو بتأخير وقوعها طمعاً في حدوث العوائق.

وجملة { واتخذ سبيله في البحر } عطف على جملة { فإني نسيت الحوت } وهي بقية كلام فتى موسى، أي وأنه اتخذ سبيله في البحر، أي سبح في البحر بعد أن كان ميتاً زمناً طويلاً.

وقوله: { عجباً } جملة مستأنفة، وهي من حكاية قول الفتى، أي أعجبُ له عجباً، فانتصب على المفعول المطلق الآتي بدلاً من فعله.