خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

قَالَ رَبِّ إِنَّي وَهَنَ ٱلْعَظْمُ مِنِّي وَٱشْتَعَلَ ٱلرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَآئِكَ رَبِّ شَقِيّاً
٤
وَإِنِّي خِفْتُ ٱلْمَوَالِيَ مِن وَرَآءِى وَكَانَتِ ٱمْرَأَتِي عَاقِراً فَهَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً
٥
يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَٱجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيّاً
٦
-مريم

التحرير والتنوير

.

جملة { قَالَ ربّ إنِّي وهَنَ العَظمُ مِني } مبنية لجملة { { نادى ربه } [مريم: 3]. وهي وما بعدها تمهيد للمقصود من الدعاء وهو قوله: { فَهَب لِي مِن لَّدُنكَ ولِيّاً }. وإنّما كان ذلك تمهيداً لما يتضمنه من اضطراره لسؤال الولد. والله يجيب المضطر إذا دعاه، فليس سؤاله الولدَ سؤال توسع لمجرد تمتع أو فخر.

ووصَف من حاله ما تشتد معه الحاجة إلى الولد حالاً ومئالاً، فكان وهن العظم وعموم الشيب حالاً مقتضياً للاستعانة بالولد مع ما يقتضيه من اقتراب إبان الموت عادة، فذلك مقصود لنفسه ووسيلة لغيره وهو الميراث بعد الموت. والخبران من قوله: { وهن العظم مني واشتعل الرأس شيباً }مستعملان مجازاً في لازم الإخبار، وهو الاسترحام لحاله. لأن المخبَر ــــ بفتح الباء ــــ عالم بما تضمنه الخبران.

والوهن: الضعف. وإسناده إلى العظم دون غيره مما شمله الوهن في جسده لأنه أوجز في الدلالة على عموم الوهن جميع بدنه لأنّ العظم هو قوام البدن وهو أصلب شيء فيه فلا يبلغه الوهن إلاّ وقد بلغ ما فوقه.

والتعريف في (العظَمُ) تعريف الجنس دال على عموم العظام منه.

وشبّه عموم الشّيب شعرَ رأسه أو غلَبَته عليه باشتعال النار في الفحم بجامع انتشار شيء لامع في جسم أسود، تشبيهاً مركباً تمثيلياً قابلاً لاعتبار التفريق في التشبيه، وهو أبدع أنواع المركب. فشبه الشعر الأسود بفحم والشعر الأبيض بنار على طريق التمثيلية المكنية ورمز إلى الأمرين بفعل { اشتَعَل }.

وأسند الاشتعال إلى الرأس، وهو مكان الشعر الذي عمّه الشيب، لأنّ الرأس لا يعمه الشيب إلاّ بعد أن يعمّ اللّحية غالباً، فعموم الشيب في الرأس أمارة التوغل في كبر السن.

وإسناد الاشتعال إلى الرأس مجاز عقلي، لأنّ الاشتعال من صفات النار المشبه بها الشيب فكان الظاهر إسناده إلى الشيب، فلما جيء باسم الشيب تمييزاً لنسبة الاشتعال حصل بذلك خصوصية المجاز وغرابته، وخصوصية التفصيل بعد الإجمال، مع إفادة تنكير { شَيباً } من التعظيم فحصل إيجاز بديع. وأصل النظم المعتاد: واشتعل الشيب في شعر الرأس.

ولِما في هذه الجملة من الخصوصيات من مبنى المعاني والبيان كان لها أعظم وقع عند أهل البلاغة نبه عليه صاحب «الكشاف» ووضحه صاحب «المفتاح» فانظُرهما.

وقد اقتبس معناها أبو بكر بن دريد في قوله:

واشتعل المُبيضّ في مُسوده مثلَ اشتعال النّار في جزل الغضا

ولكنّه خليق بأن يكون مضرب قولهم في المثل: «ماء ولا كصدّى».

والشيب: بياض الشعر. ويعرض للشعر البياض بسبب نقصان المادة التي تعطي اللون الأصلي للشعر، ونقصانها بسبب كبر السن غالباً، فلذلك كان الشيب علامة على الكبر، وقد يبيضّ الشعر مِنْ مرض.

وجملة { لم أكن بدعائك رب شقياً } معترضة بين الجمل التمهيدية، والباء في قوله: { بدعائك } للمصاحبة.

والشقيّ: الذي أصابته الشقوة، وهي ضد السعادة، أي هي الحرمان من المأمول وضلال السّعي. وأطلق نفي الشقاوة والمراد حصول ضدها وهو السعادة على طريق الكناية إذ لا واسطة بينهما عرفاً.

ومثل هذا التركيب جرى في كلامهم مجرى المثل في حصول السعادة من شيء. ونظيره قوله تعالى في هذه السورة في قصة إبراهيم: { { عسى ألا أكون بدعاء ربي شقياً } [مريم: 48] أي عسى أن أكون سعيداً. أي مستجاب الدعوة. وفي حديث أبي هُريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربّه في شأن الذين يذكرون الله ومن جالسهم «هم الجلساء لا يشقى بهم جليسهم» أي يسعد معهم. وقال بعض الشعراء، لم نعرف اسمه وهو إسلامي:

وكنت جليسَ قعقاع بن شَوْر ولا يشقَى بقعقاع جليس

أي يسعد به جليسُه.

والمعنى: لم أكن فيما دعوتك من قبل مردود الدعوة منك، أي أنه قد عهد من الله الاستجابة كلما دعاه.

وهذا تمهيد للإجابة من طريق غير طريق التمهيد الذي في الجمل المصاحبة له بل هو بطريق الحث على استمرار جميل صنع الله معه، وتوسلٌ إليه بما سلف له معه من الاستجابة.

روي أن محتاجاً سأل حاتماً الطائي أو مَعْنَ بن زائدةَ قائلاً: «أنا الذي أحسنت إليّ يوم كذا» فقال: «مرحباً بمن تَوسل بنا إلينا».

وجملة { وإني خفت الموالي من ورائي }عطف على جملة { واشتعل الرأس شيباً }، أي قاربت الوفاة وخفت الموالي من بعدي. وما روي عن ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، وأبي صالح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلاً أنه قال: "يرحم الله زكرياء ما كان عليه من وراثة ماله" . فلعلّه خشي سوء معرفتهم بما يخلّفه من الآثار الدينية والعلمية. وتلك أعلاق يعزّ على المؤمن تلاشيها، ولذلك قال: { يرثني ويرث من آل يعقوب }فإن نُفوس الأنبياء لا تطمح إلا لمعالي الأمور ومصالح الدين وما سوى ذلك فهو تبع.

فقوله { يَرِثُني }يعني به وراثة ماله. ويؤيّده ما أخرجه عبد الرزاق عن قتادة عن الحسن أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "يرحم الله زكرياء ما كان عليه من وراثة ماله" .

والظواهر تؤذن بأن الأنبياء كانوا يُورَثون، قال تعالى: { وورث سليمان داوود } [النمل:16]. وأما قول النبي - صلى الله عليه وسلم - "نحن معشر الأنبياء لا نورث ما تركْنَا صدقةٌ" فإنما يريد به رسول الله نفسَه، كما حمله عليه عُمر في حديثه مع العبّاس وعليّ في «صحيح البخاري» إذ قال عمر: «يريد رسول الله بذلك نفسه»، فيكون ذلك من خصوصيات محمد - صلى الله عليه وسلم - فإن كان ذلك حكماً سابقاً كان مراد زكرياء إرث آثار النبوءة خاصة من الكتب المقدّسة وتقاييده عليها.

والموالي: العصبة وأقرب القرابة، جمع مولى بمعنى الولي.

ومعنى: { من ورائي }من بعدي، فإن الوراء يطلق ويراد به ما بعد الشيء، كما قال النّابغة:

وليس وراء الله للمرء مطلب

أي بعد الله. فمعنى { من ورائي }من بعد حياتي.

و{ من ورائي }في موضع الصفة لــــ { الموالي }أو الحال.

وامرأة زكرياء اسمها أليصابات من نسل هارون أخي موسى فهي من سبط لاوي.

والعاقر: الأنثى التي لا تلد، فهو وصف خاص بالمرأة، ولذلك جرد من علامة التأنيث إذ لا لبس. ومصدره: العُقر ــــ بفتح العين وضمها مع سكون القاف ــــ. وأتى بفعل (كان) للدّلالة على أن العقر متمكن منها وثابت لها فلذلك حرم من الولد منها.

ومعنى { مِنْ لَدنكَ }أنه من عند الله عندية خاصة، لأنّ المتكلّم يعلم أنّ كلّ شيء من عند الله بتقديره وخلقه الأسْباب ومسبباتها تبعاً لخلقها، فلما قال { من لدنك } دلّ على أنه سأل ولياً غير جارٍ أمره على المعتاد من إيجاد الأولاد لانعدام الأسباب المعتادة، فتكون هبته كرامة له.

ويتعلّق { لِي } و { مِن لَّدُنكَ } بفعل { هَبْ }. وإنما قدم { لِي } على { مِن لدُنكَ } لأنه الأهم في غرض الداعي، وهو غرض خاص يقدم على الغرض العام.

و { يَرِثُني } قرأه الجمهور بالرفع على الصفة لــــ { وَلِيَّا }. وقرأه أبو عمرو، والكسائي بالجزم على أنه جواب الدعاء في قوله { هَبْ لِي } لإرادة التسبب لأن أصل الأجوبة الثمانية أنها على تقدير فاء السببية.

و { ءَال يَعْقُوبَ } يجوز أن يراد بهم خاصة بني إسرائيل كما يقتضيه لفظ { آل } المشعر بالفضيلة والشرف، فيكون يعقوب هو إسرائيل؛ كأنه قال: ويرث من آل إسرائيل، أي حملة الشريعة وأحْبار اليهودية كقوله تعالى: { { فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة } [النساء:54]، وإنما يذكر آل الرجل في مثل هذا السياق إذا كانوا على سننه، ومن هذا القبيل قوله تعالى: { { إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه } [آل عمران:68] وقولِه: { ذرية من حملنا مع نوح } [الإسراء:3]، مع أن الناس كلهم ذرية من حملوا معه.

ويجوز أن يراد يعقوب آخر غير إسرائيل. وهو يعقوب بن ماثان، قاله: معقل والكلبي، وهو عمّ مريم أخو عمران أبيها، وقيل: هو أخو زكرياء، أي ليس له أولاد فيكون ابنُ زكرياء وارثاً ليعقوب لأنه ابن أخيه، فيعقوب على هذه هو من جملة الموالي الذين خافهم زكرياء من ورائه.