خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَآءُو فَإِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
٢٢٦
وَإِنْ عَزَمُواْ ٱلطَّلاَقَ فَإِنَّ ٱللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ
٢٢٧
-البقرة

التحرير والتنوير

استئناف ابتدائي للانتقال إلى تشريع في عمل كان يغلب على الرجال أن يعملوه في الجاهلية، والإسلام. كان من أشهر الأيمان الحائلة بين البر والتقوى والإصلاح، أيمان الرجال على مهاجرة نسائهم، فإنها تجمع الثلاثة؛ لأن حسن المعاشرة من البر بين المتعاشرين، وقد أمر الله به في قوله: { { وعاشروهن بالمعروف } [النساء: 19] فامتثاله من التقوى، ولأن دوامه من دوام الإصلاح، ويحدث بفقده الشقاق، وهو مناف للتقوى. وقد كان الرجل في الجاهلية يولي من امرأته السنة والسنتين، ولا تنحل يمينه إلاّ بعد مضي تلك المدة، ولا كلام للمرأة في ذلك.

وعن سعيد بن المسيب: «كان الرجل في الجاهلية لا يريد المرأة، ولا يحب أن يطلقها، لئلا يتزوجها غيره، فكان يحلف ألاّ يقربها مضارة للمرأة» أي ويقسم على ذلك لكيلا يعود إليها إذا حصل له شيء من الندم. قال: «ثم كان أهل الإسلام يفعلون ذلك، فأزال الله ذلك، وأمهل للزوج مدة حتى يتروى» فكان هذا الحكم من أهم المقاصد في أحكام الأيمان، التي مهد لها بقوله: { { ولا تجعلوا الله عرضة } [البقرة: 224].

والإيلاء: الحلف، وظاهر كلام أهل اللغة أنه الحلف مطلقاً يقال آلى يولي إيلاء، وتألى يتألى تألياً، وائتلى يأتلي ائتلاء، والاسم الألوَّة والألية، كلاهما بالتشديد، وهو واوي فالألوة فعولة والألية فعيلة.

وقال الراغب: «الإيلاء حلف يقتضي التقصير في المحلوف عليه مشتق من الألو وهو التقصير قال تعالى: { { لا يألونكم خبالاً } [آل عمران: 118] { { ولا يأتل أولوا الفضل منكم والسعة } [النور: 22] وصار في الشرع الحلف المخصوص» فيؤخذ من كلام الراغب أن الإيلاء حلف على الامتناع والترك؛ لأن التقصير لا يتحقق بغير معنى الترك؛ وهو الذي يشهد به أصل الاشتقاق من الألو، وتشهد به موارد الاستعمال، لأنا نجدهم لا يذكرون حرف النفي بعد فعل آلى ونحوه كثيراً، ويذكرونه كثيراً، قال المتلمس:

آلَيْتُ حبَّ العِرَاققِ الدَّهْرَ أَطْعَمُه

وقال تعالى: { { ولا يأتل أولوا الفضل منكم والسعة أن يؤتوا } [النور: 22] أي على أن يؤتوا وقال تعالى هنا: { للذين يؤلون من نسائهم } فَعدَّاه بمِنْ، ولا حاجة إلى دعوى الحذف والتضمين. وأيَّاً مَّا كان فالإيلاء بعد نزول هذه الآية، صار حقيقة شرعية في هذا الحَلِف على الوصف المخصوص.

ومجيء اللام في { للذين يؤلون } لبيان أن التربص جعل توسعة عليهم، فاللام للأَجْل مثل هَذا لَكَ ويعلم منه معنى التخيير فيه، أي ليس التربص بواجب، فللمولى أَن يفىء في أقل من الأشهر الأربعة. وعدى فعل الإيلاء بمِن، مع أن حقه أن يعدَّى بعلى؛ لأنه ضمن هنا معنى البُعد، فعدي بالحرف المناسب لفعل البُعد، كأنه قال: للذين يؤلون متباعدين من نسائهم، فمِنْ للابتداء المجازي.

والنساء: الزوجات كما تقدم في قوله: { { فاعتزلوا النساء في المحيض } [البقرة: 222] وتعليق الإيلاء باسم النساء من باب إضافة التحليل والتحريم ونحوهما إلى الأعيان، مثل { { حُرِّمَت عليكم أمهاتكم } [النساء: 23] وقد تقدم في قوله تعالى: { { إنما حرَّم عليكم الميتة } [البقرة: 173].

والتربص: انتظار حصول شيء لغير المنتظِر، وسيأتي الكلام عليه عند قوله تعالى: { { والمطلَّقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء } [البقرة: 228]، وإضافة تربص إلى أربعة أشهر إضافة على معنى «في» كقوله تعالى: { { بل مَكَرُ الليل } [سبأ: 33].

وتقديم { للذين يؤلون } على المبتدأ المسند إليه، وهو تربص، للاهتمام بهذه التوسعة التي وسع الله على الأزواج، وتشويق لذِكْر المسند إليه. و{ فاءوا } رجعوا أي رجعوا إلى قربان النساء، وحذف متعلق { فاءوا } بالظهور المقصود. والفَيْئة تكون بالتكفير عن اليمين المذكورة في سورة العقود.

وقوله: { فإن الله غفور رحيم } دليل الجواب، أي فحنثهم في يمين الإيلاء مغفور لهم؛ لأن الله غفور رحيم. وفيه إيذان بأن الإيلاء حرام، لأن شأن إيلائهم الوارد فيه القرآن، قصدُ الإضرار بالمرأة. وقد يكون الإيلاء مباحاً إذا لم يقصد به الإضرار ولم تطل مدته: كالذي يكون لقصد التأديب، أو لقصد آخر معتبر شرعاً، غير قصد الإضرار المذموم شرعاً. وقد آلى النبي صلى الله عليه وسلم من نسائه شَهْراً، قيل: لمرض كان برجله، وقيل: لأجل تأديبهن؛ لأنهن قد لقين من سعة حلمه ورفقه ما حدا ببعضهن إلى الإفراط في الإدلال، وحمَل البقية على الاقتداء بالأخريات، أو على استحسان ذلك. والله ورسوله أعلم ببواطن الأمور.

وأما جواز الإيلاء للمصلحة كالخوف على الولد من الغَيْل، وكالحُمْية من بعض الأمراض في الرجل والمَرأة، فإباحته حاصلة من أدلة المصلحة ونفي المضرة، وإنما يحصل ذلك بالحلف عند بعض الناس، لما فيهم من ضعف العزم واتهام أنفسهم بالفلتة في الأمرِ، إن لم يقيدوها بالحلف.

وعَزم الطلاق: التصميم عليه، واستقرار الرأي فيه بعد التأمل وهو شيء لا يحصل لكل مُوللٍ من تلقاء نفسه، وخاصة إذا كان غالب القصد من الإيلاء المغاضبة والمضارة، فقوله: { وإن عزموا الطلاق } دليل على شرط محذوف، دل عليه قوله: { فإن فاءو } فالتقدير: وإن لم يفيئوا فقد وجب عليهم الطلاق، فهم بخير النظرين بين أن يفيئوا أو يطلقوا فإن عزموا الطلاق فقد وقع طلاقهم.

وقوله { فإن الله سميع عليم } دليل الجواب، أي فقد لزمهم وأمضى طلاقهم، فقد حد الله للرجال في الإيلاء أجلاً محدوداً، لا يتجاوزونه، فإما أن يعودوا إلى مضاجعة أزواجهم، وإما أن يطلقوا، ولا نمدوحة لهم غير هذين.

وقد جعل الله للمولي أجلاً وغاية، أما الأجل فاتفق عليه علماء الإسلام، واختلفوا في الحالف على أقل من أربعة أشهر، فالأئمة الأربعة على أنه ليس بإيلاء، وبعض العلماء: كإسحاق بن راهويه وحماد يقول: هو إيلاء، ولا ثمرة لهذا الخلاف فيما يظهر، إلاّ ما يترتب على الحلف بقصد الضرِّ من تأديب القاضي إياه إذا رفعت زوجه أمرها إلى القاضي ومِن أمرِه إياه بالفَيْئَة.

وأما الغاية فاختلفوا أيضاً في الحاصل بعد مضي الأجل، فقال مالك والشافعي: إن رفعته امرأته بعد ذلك يوقف لدى الحاكم، فإما أن يفىء أو يطلق بنفسه، أو يطلق الحاكم عليه، وروي ذلك عن اثنى عشر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وقال أبو حنيفة: إن مضت المدة ولم يفيءْ فقد بانت منه، واتفق الجميع على أن غير القادر يكفي أن يفيء بالعزم، والنية، وبالتصريح لدى الحاكم، كالمريض والمسجون والمسافر.

واحتج المالكية بأن الله تعالى قال: { فإن الله سميع عليم } فدل على أن هنالك مسموعاً؛ لأن وصف الله بالسميع معناه العليم بالمسموعات، على قول المحققين من المتكلمين، لا سيما وقد قرن بعليم، فلم يبق مجال لاحتمال قول القائلين من المتكلمين بأن السميع مرادف للعليم وليس المسموع إلاّ لفظ المولي، أو لفظ الحاكم، دون البينونة الاعتبارية. وقوله { عليم } يرجع للنية والقصد. وقال الحنفية { سميع } لإيلائه، الذي صار طلاقاً بمضي أجله، كأنهم يريدون أن صيغة الإيلاء جعلها الشرع سبب طلاق، بشرط مضي الأمد { عليم } بنية العازم على ترك الفَيئة. وقول المالكية أصح؛ لأن قوله: { فإن الله سميع عليم } جُعل مفرعاً عن عزم الطلاق لا عن أصل الإيلاء؛ ولأن تحديد الآجال وتنهيتها موكول للحكام.

وقد خفي على الناس وجه التأجيل بأربعة أشهر، وهو أجل حدده الله تعالى، ولم نطلع على حكمته، وتلك المدة ثلث العام، فلعلها ترجع إلى أن مثلها يعتبر زمناً طويلاً، فإن الثلث اعتبر معظم الشيء المقسوم، مثل ثلث المال في الوصية، وأشار به النبي عليه الصلاة والسلام على عبد الله بن عمرو بن العاص في صوم الدهر. وحاول بعض العلماء توجيهه بما وقع في قصة مأثورة عن عمر بن الخطاب، وعزا ابن كثير في «تفسيره» روايتها لمالك في «الموطأ» عن عبد الله بن دينار. ولا يوجد هذا في الروايات الموجودة لدينا: وهي رواية يحيى بن يحيى الليثي، ولا رواية ابن القاسم والقعنبي وسويد بن سعيد ومحمد بن الحسن الشيباني، ولا رواية يحيى بن يحيى بن بكير التميمي التي يرويها المهدي بن تومرت، فهذه الروايات التي لدينا فلعلها مذكورة في رواية أخرى لم نقف عليها. وقد ذكر هذه القصة أبو الوليد الباجي في شرحه على الموطأ المسمى «بالمنتقى»، ولم يعزها إلى شيء من روايات «الموطأ»: أن عمر خرج ليلة يطوف بالمدينة يتعرف أحوال الناس فمر بدار سمع امرأة بها تنشد:

أَلاَ طَالَ هذا الليلُ واسَود جانبهوأَرَّقني أَن لا خليلَ أُلاَعِبُه
فلولا حذار الله لا شيء غيرهلَزعزعَ من هذا السرير جوانبه

فاستدعاها من الغد فأخبرته أن زوجها أرسل في بعث العراق، فاستدعى عمر نساء فسألهن عن المدة التي تستطيع المرأة فيها الصبر على زوجها قلن شهران ويقل صبرها في ثلاثة أشهر، وينفد في أربعة أشهر وقيل إنه سأل ابنته حفصة فأمر عمر قواد الأجناد ألا يمسكوا الرجل في الغزو أكثر من أربعة أشهر، فإذا مضت استردَّ الغازين ووجه قوماً آخرين.