خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

يٰبَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنجَيْنَاكُمْ مِّنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ ٱلطُّورِ ٱلأَيْمَنَ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ ٱلْمَنَّ وَٱلسَّلْوَىٰ
٨٠
كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلاَ تَطْغَوْاْ فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَن يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَىٰ
٨١
وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحَاً ثُمَّ ٱهْتَدَىٰ
٨٢
-طه

التحرير والتنوير

هذه الجمل معترضة في أثناء القصة مثل ما تقدم آنفاً في قوله تعالى: { إنه من يأت ربه مجرماً } الآية. وهذا خطاب لليهود الذين في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - تذكيراً لهم بنعم أخرى.

وقُدّمت عليها النعمة العظيمة، وهي خلاصهم من استعباد الكفرة.

وقرأ الجمهور «قد أنجيناكم - وواعدناكم» بنون العظمة. وقرأهما حمزة، والكسائي، وخلف «قد أنجيتكم ووعدتكم» بتاء المتكلّم.

وذكّرهم بنعمة نزول الشريعة وهو ما أشار إليه قوله { ووٰعَدْنٰكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الأيْمَنَ }. والمواعدة: اتّعاد من جانبين، أي أمرنا موسى بالحضور للمناجاة فذلك وعد من جانب الله بالمناجاة، وامتثالُ موسى لذلك وعدٌ من جانبه، فتم معنى المواعدة، كما قال تعالى في سورة البقرة (52): { { وإذ واعدنا موسى أربعين ليلة } }.

ويظهر أنّ الآية تشير إلى ما جاء في الإصحاح 19 من سفر الخروج: في الشهر الثالث بعد خروج بني إسرائيل من أرض مصر جاءوا إلى برّية سيناء هنالك نزل إسرائيل مقابل الجبل. وأما موسى فصعد إلى الله فناداه الربّ من الجبل قائلاً: هكذا نقول لبيت يعقوب أنتم رأيتم ما صنعت بالمصريين وأنا حملتكم على أجنحة النّسور، إن سمعتم لصوتي وحفظتم عهدي تكونون لي خاصة... إلخ.

وذكر الطور تقدم في سورة البقرة.

وجانب الطور: سفحه. ووصفه بالأيمن باعتبار جهة الشخص المستقبل مشرقَ الشمس، وإلاّ فليس للجبل يمين وشمال معيّنان، وإنما تعرَّف بمعرفة أصل الجهات وهو مطلع الشمس، فهو الجانب القبلي باصطلاحنا. وجُعل محلّ المواعدة الجانب القبلي وليس هو من الجانب الغربي الذي في سورة القصص (30): { { فلما أتاها نودي من شاطىء الواد الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة } وقال فيها { وما كنت بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى الأمر } [القصص: 44] فهو جانب غربي، أي من جهة مغرب الشمس من الجبل، وهو الذي آنس موسى منه ناراً.

وانتصب { جَانِبَ الطُّورِ } على الظرفية المكانية لأنّه لاتساعه بمنزلة المكان المبهم.

ومفعول المواعدة محذوف، تقديره: المناجاة.

وتعدية { واعدناكم } إلى ضمير جماعة بني إسرائيل وإن كانت مواعدة لموسى ومن معه الّذين اختارهم من قومه باعتبار أنّ المقصد من المواعدة وحي أصول الشريعة التي تصير صلاحاً للأمّة فكانت المواعدة مع أولئك كالمواعدة مع جميع الأمّة.

وقرأ الجميع { ونزَّلنا عليكم } الخ؛ فباعتبار قراءة حمزة، والكسائي، وخلف قد أنجيتكم وواعدتكم بتاء المفرد تكون قراءة { ونزلنا } - بنون العظمة - قريباً من الالتفات وليس عينه، لأن نون العظمة تساوي تاء المتكلّم.

والسلوَى تقدم في سورة البقرة. وكان ذلك في نصف الشهر الثاني من خروجهم من مصر كما في الإصحاح 16 من سفر الخروج.

وجملة { كُلُوا } مقولٌ محذوف. تقديره: وقلنا أو قائلين. وتقدم نظيره في سورة البقرة.

وقرأ الجمهور { ما رزقناكم } بنون العظمة. وقرأه حمزة، والكسائي، وخلف { ما رزقتكم } بتاء المفرد.

والطغيان: أشدّ الكِبر. ومعنى النهي عن الطغيان في الرزق: النهي عن ترك الشكر عليه وقلّة الاكتراث بعبادة المُنعِم.

وحرف (في) الظرفيّة استعارةٌ تبعية؛ شبه ملابسة الطغيان للنّعمة بحلول الطغيان فيها تشبيهاً للنعمة الكثيرة بالوعاء المحيط بالمنعَم عليه على طريقة المكنية، وحرف الظرفية قرينتها.

والحلول: النزول والإقامة بالمكان؛ شبهت إصابة آثار الغضب إياهم بحلول الجيش ونحوه بديار قوم.

وقرأ الجمهور { فيحِلّ عليكم } بكسر الحاء وقرأوا { ومن يحلِل عليه غضبي } بكسر اللاّم الأولى على أنهما فعلا حَلّ الدّيْن يقال: حلّ الديْن إذا آن أجل أدائه. وقرأه الكسائي بالضمّ في الفعلين على أنّه من حلّ بالمكان يحُلّ إذا نزل به. كذا في الكشاف ولم يتعقبوه.

وهذا مما أهمله ابن مالك في «لامية الأفعال»، ولم يستدركه شارحها بَحْرَق اليمني في «الشرح الكبير». ووقع في «المصباح» ما يخالفه ولا يعوّل عليه. وظاهر «القاموس» أن حلّ بمعنى نزل يستعمل قاصراً ومتعدياً، ولم أقف لهم على شاهد في ذلك.

وهوَى: سقط من علوّ، وقد استعير هنا للهلاك الذي لا نهوض بعده، كما قالوا: هوت أمّه، دعاء عليه، وكما يقال: ويل أمّه، ومنه: { فأمه هاوية } [القارعة: 9]، فأريد هويّ مخصوص، وهو الهوي من جبل أو سطح بقرينة التهديد.

وجملة { وإنّي لغَفَّارٌ } إلى آخرها استطراد بعد التحذير من الطغيان في النعمة بالإرشاد إلى ما يتدارك به الطغيان إن وقع بالتوبة والعمل الصالح. ومعنى { تَابَ }: ندم على كفره وآمن وعمل صالحاً.

وقوله { ثُمَّ اهْتَدَىٰ } (ثم) فيه للتراخي في الرتبة؛ استعيرت للدلالة على التباين بين الشيئين في المنزلة كما كانت للتباين بين الوقتين في الحدوث. ومعنى { اهتدى }: استمرّ على الهدى وثبت عليه، فهو كقوله تعالى: { { إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون } [الأحقاف: 13].

والآيات تشير إلى ما جاء في الإصحاح من سفر الخروج «الرب إله رحيم ورؤوف، بطيء الغضب وكثير الإحسان غافر الإثم والخطيئة ولكنّه لن يبرىء إبراء».