خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكاً لِّيَذْكُرُواْ ٱسْمَ ٱللَّهِ عَلَىٰ مَا رَزَقَهُمْ مِّن بَهِيمَةِ ٱلأَنْعَامِ فَإِلَـٰهُكُمْ إِلَـٰهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُواْ وَبَشِّرِ ٱلْمُخْبِتِينَ
٣٤
ٱلَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ ٱللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَٱلصَّٰبِرِينَ عَلَىٰ مَآ أَصَابَهُمْ وَٱلْمُقِيمِي ٱلصَّلَٰوةِ وَمِمَّا رَزَقْنَٰهُمْ يُنفِقُونَ
٣٥
-الحج

التحرير والتنوير

{ وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا لِّيَذْكُرُواْ ٱسْمَ ٱللَّهِ عَلَىٰ مَا رَزَقَهُمْ مِّن بَهِيمَةِ ٱلأَنْعَـٰمِ فَإِلَـٰهُكُمْ إِلَـٰهٌ وَٰحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُواْ }

عطف على جملة { ثم محلها إلى البيت العتيق } [الحج: 33].

والأمة: أهل الدين الذين اشتركوا في اتباعه. والمراد: أنّ المسلمين لهم منسك واحد وهو البيت العتيق كما تقدم. والمقصود من هذا الرد على المشركين إذ جعلوا لأصنامهم مناسك تشابه مناسك الحج وجعلوا لها مواقيت ومذابح مثل الغَبْغَب مَنحر العُزّى، فذكرهم الله تعالى بأنه ما جعل لكل أمّة إلاّ منسكاً واحداً للقربان إلى الله تعالى الذي رزق الناس الأنعام التي يتقربون إليه منها فلا يحق أن يُجعل لغير الله منسك لأنّ ما لا يخلق الأنعام المقرّب بها ولا يرزقها الناسَ لا يسْتحق أن يُجعل له منسكٌ لِقربانها فلا تتعدد المناسك.

فالتنكير في قوله { منسكاً } للإفراد، أي واحداً لا متعدداً، ومحلّ الفائدة هو إسناد الجعل إلى ضمير الجلالة.

وقد دل على ذلك قوله: { ليذكروا اسم الله } وأدلّ عليه التفريع بقوله { فإلهكم إله واحد }. والكلام يفيد الاقتداء ببقيّة الأمم أهل الأديان الحق.

و{ على }يجوز أن تكون للاستعلاء المجازي متعلقة بــــ { يذكروا اسم الله } مع تقدير مضاف بعدَ { على }تقديره: إهداء ما رزقهم، أي عند إهداء ما رزقهم، يعني ونحرها أو ذبحها.

ويجوز أن تكون { على }بمعنى: لام التعليل. والمعنى: ليذكروا اسم الله لأجل ما رزقهم من بهيمة الأنعام.

وقد فرع على هذا الانفرادُ بالإلهية بقوله: { فإلهكم إله واحد فله أسلموا } أي إذ كان قد جعل لكم منسكاً واحداً فقد نبهكم بذلك أنه إله واحد، ولو كانت آلهة كثيرة لكانت شرائعها مختلفة. وهذا التفريع الأول تمهيد للتفريع الذي عقبه وهو المقصود، فوقع في النظم تغيير بتقديم وتأخير. وأصل النظم: فلله أسلموا، لأن إلهكم إله واحد. وتقديم المجرور في { فله أسلموا } للحصر، أي أسلموا له لا لغيره. والإسلام: الانقياد التام، وهو الإخلاص في الطاعة، أي لا تخلصوا إلا لله، أي فاتركوا جميع المناسك التي أُقيمت لغيرِ الله فلا تنسكوا إلاّ في المنسك الذي جعله لكم، تعريضاً بالرد على المشركين.

وقرأ الجمهور { مَنسَكاً } ــــ بفتح السين ــــ وقرأه حمزة، والكسائي، وخلف ــــ بكسر السين ــــ، وهو على القراءتين اسم مكان للنَّسْك، وهو الذبح. إلا أنه على قراءة الجمهور جارٍ على القياس لأن قياسه الفتح في اسم المكان إذ هو من نسك ينسك ــــ بضمّ العين ــــ في المضارع. وأما على قراءة الكسر فهو سماعي مثل مَسجد من سجد يسجد، قال أبو عليّ الفارسي: ويشبه أن الكسائي سمعه من العرب.

{ وَبَشِّرِ ٱلْمُخْبِتِين ٱلَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ ٱللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَٱلصَّـٰبِرِينَ عَلَىٰ مَآ أَصَابَهُمْ وَٱلْمُقِيمِى ٱلصَّلَوٰةِ وَمِمَّا رَزَقْنَـٰهُمْ يُنفِقُونَ }

اعتراض بين سوق المنن، والخطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحاب هذه الصفات هم المسلمون.

والمُخْبِت: المتواضع الذي لا تكبُّر عنده. وأصل المخبت مَن سلك الخَبْت. وهو المكان المنخفض ضد المُصعد، ثم استعير للمتواضع كأنه سلك نفسه في الانخفاض، والمراد بهم هنا المؤمنون، لأنّ التواضع من شيمهم كما كان التكبّر من سمات المشركين قال تعالى: { كذلك يطبع الله على كل قلب متكبر جبار } [غافر: 35].

والوَجل: الخوف الشديد. وتقدّم في قوله تعالى: { { قال إنا منكم وجلون } في[سورة الحجر: 52].

وقد أتبع صفة { المخبتين }بأربع صفات وهي: وجل القلوب عند ذكر الله، والصّبر على الأذى في سبيله، وإقامة الصلاة، والإنفاق. وكلّ هذه الصفات الأربع مظاهر للتواضع فليس المقصود مَن جمع تلك الصفات لأن بعض المؤمنين لا يجد ما ينفق منه وإنما المقصود مَن لم يُخِل بواحدة منها عند إمكانها. والمراد من الإنفاق الإنفاق على المحتاجين الضعفاء من المؤمنين لأنّ ذلك هو دأب المخبتين. وأما الإنفاق على الضيف والأصحاب فذلك مما يفعله المتكبرون من العرب كما تقدّم عند قوله تعالى: { كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيراً الوصية للوالدين والأقربين } [البقرة: 180]. وهو نظير الإنفاق على الندماء في مجالس الشراب. ونظير إتمام الإيسار في مواقع الميسر، كما قال النّابغة:

أني أتمم أيساري وأمنحهممثنَى الأيادي وأكسوا الجفنة الأُدما

والمراد بالصبر: الصبر على ما يصيبهم من الأذى في سبيل الإسلام. وأما الصبر في الحروب وعلى فقد الأحبّة فمما تتشرك فيه النفوس الجلْدة من المتكبرين والمخبتين. وفي كثير من ذلك الصبر فضيلة إسلامية إذا كان تخلقاً بأدب الإسلام قال تعالى: { وبشّر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون } [البقرة: 155ــــ156] الآية.