خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِيٍّ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّىٰ أَلْقَى ٱلشَّيْطَانُ فِيۤ أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ ٱللَّهُ مَا يُلْقِي ٱلشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ ٱللَّهُ آيَاتِهِ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ
٥٢
لِّيَجْعَلَ مَا يُلْقِي ٱلشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَٱلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ ٱلظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ
٥٣
وَلِيَعْلَمَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْعِلْمَ أَنَّهُ ٱلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَيُؤْمِنُواْ بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ ٱللَّهَ لَهَادِ ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ
٥٤
-الحج

التحرير والتنوير

عطف على جملة { { قل ياأيها الناس إنما أنا لكم نذير مبين } [الحج: 49] لأنه لما أفضى الكلام السابق إلى تثبيت النبي - عليه الصلاة والسلام - وتأنيس نفسه فيما يلقاه من قومه من التكذيب بأن تلك شنشنة الأمم الظالمة من قبلهم فيما جاء عقبَ قوله: { { وكأين من قرية أمليت لها وهي ظالمة } [الحج: 48] الخ.. وأنه مقصور على النّذارة فمن آمن فقد نجا ومن كفر فقد هلك، أريد الانتقال من ذلك إلى تفصيل تسليته وتثبيته بأنه لقي ما لقيه سلفُه من الرسل والأنبياء - عليهم السلام -، وأنه لم يسلم أحد منهم من محاولة الشيطان أن يفسد بعض ما يحاولونه من هدي الأمم وأنهم لقُوا من أقوامهم مكذّبين ومصدّقين سنةَ الله في رُسله - عليهم السلام -.

فقوله: { من رسول ولا نبي } نص في العموم، فأفاد أنّ ذلك لم يعدُ أحداً من الأنبياء والرسل.

وعطف { نبي } على { رسول } دالّ على أنّ للنبي مَعنى غيرُ معنى الرسول:

فالرسول: هو الرجل المبعوث من الله إلى الناس بشريعة. والنبي: مَن أوحَى الله إليه بإصلاح أمر قوم بحملهم على شريعة سابقةٍ أو بإرشادهم إلى ما هو مستقر في الشّرائع كلها فالنبي أعمّ من الرسول، وهو التحقيق.

والتمنّي: كلمة مشهورة، وحقيقتها: طلب الشيء العسير حصولُه. والأمنية: الشيء المتمنّى. وإنما يتمنى الرسل والأنبياء أن يكون قومهم كلُّهم صالحين مهتدين، والاستثناءُ من عمومِ أحوال تابعة لعموم أصحابها وهو { من رسول ولا نبي }، أي ما أرسلناهم في حال من الأحوال إلاّ في حالِ إذا تمنّى أحدُهم أمنية ألقى الشيطان فيها الخ، أي في حال حصول الإلقاء عند حصول التمني لأنّ أماني الأنبياء خيرٌ محض والشيطان دأبُه الإفساد وتعطيل الخير.

والقصر المستفاد من النفي والاستثناء قصر موصوف على صفة، وهو قصر إضافي، أي دون أن نرسل أحداً منهم في حال الخلو من إلقاء الشيطان ومكره.

والإلقاء حقيقته: رمي الشيء من اليد. واستعير هنا للوسوسة وتسويل الفساد تشبيهاً للتسويل بإلقاء شيء من اليد بين الناس. ومنه قوله تعالى: { فكذلك ألقى السامري } [طه: 87] وقوله: { فألقوا إليهم القول } [النحل: 86] وكقوله تعالى: { { فقبضت قبضة من أثر الرسول فنبذتها } [طه: 96] على ما حققناه فيما مضى.

ومفعول { ألقى } محذوف دل عليه المقام لأنّ الشيطان إنما يلقي الشر والفساد، فإسناد التمني إلى الأنبياء دل على أنه تمنّي الهدى والصلاح، وإسناد الإلقاء إلى الشيطان دلّ على أنه إلقاء الضلال والفساد. فالتقدير: أدخل الشيطان في نفوس الأقوام ضلالات تفسد ما قاله الأنبياء من الإرشاد.

ومعنى إلقاء الشيطان في أمنية النبي والرسول إلقاء ما يضادُّها، كمن يمكر فيلقى السمّ في الدّسم، فإلقاء الشيطان بوسوسته: أن يأمر الناس بالتكذيب والعصيان، ويلقي في قلوب أيمّة الكفر مطاعن يبثونها في قومهم، ويروّج الشبهات بإلقاء الشكوك التي تصرف نظر العقل عن تذكر البُرهان، والله تعالى يُعيد الإرشاد ويكرّر الهدي على لسان النبي، ويفضح وساوس الشيطان وسوءَ فعله بالبيان الواضح كقوله تعالى: { يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة } [الأعراف: 27] وقوله: { إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدواً } [فاطر: 6]. فالله بهديهِ وبيانه ينسخ ما يُلقِي الشيطان، أي يزيل الشبهات التي يلقيها الشيطان ببيان الله الواضح، ويزيد آيات دعوة رسله بياناً، وذلك هو إحكام آياته، أي تحقيقها وتثبيت مدلولها وتوضيحها بما لا شبهة بعده إلا لمن رِين على قلبه، وقد تقدم معنى الآيات المحكمات في آل عمران.

وقد فسر كثيرٌ من المفسرين { تمنَى }بمعنى قَرَأ، وتبعهم أصحاب كتب اللغة وذكروا بيتاً نسبوه إلى حسّان بن ثابت وذكروا قصة بروايات ضعيفة سنذكرها. وأيّا ما كان فالقول فيه هو والقول في تفسير التمني بالمعنى المشهور سواءٌ، أي إذا قرأ على الناس ما أنزل إليه ليهتدوا به ألقَى الشيطان في أمنيته، أي في قراءته، أي وسوس لهم في نفوسهم ما يناقضه وينافيه بوسوسته للناس التكذيب والإعراض عن التدبر. فشبه تسويل الشيطان بوسوسته للكافرين عدمَ امتثال النبي بإلقاء شيء في شيء لخلطه وإفساده.

وعندي في صحة إطلاق لفظ الأمنية على القراءة شك عظيم، فإنه وإن كان قد ورد تمنّى بمعنى قرأ في بيت نسب إلى حسّان بن ثابت إن صحت رواية البيت عن حسان على اختلاف في مصراعه الأخير:

تمنى كتاب الله أولَ ليلهتمنيَ داوود الزبورَ على مَهل

فلا أظن أن القراءة يقال لها أمنية.

ويجوز أن يكون المعنى أن النبي إذا تمنّى هدْي قومه أو حرَص على ذلك فلقي منهم العناد، وتمنّى حصول هداهم بكل وسيلة ألقى الشيطان في نفس النبي خاطر اليأس من هداهم عسى أن يُقْصر النبيُ من حرصه أو أن يضجره، وهي خواطر تلوح في النفس ولكن العصمة تعترضها فلا يلبث ذلك الخاطر أن ينقشع ويرسخ في نفس الرسول ما كلّف به من الدأب على الدعوة والحرص على الرشد. فيكون معنى الآية على هذا الوجه ملوّحاً إلى قوله تعالى: { { وإن كان كبر عليك إعراضهم فإن استطعت أن تبتغي نفقاً في الأرض أو سُلماً في السماء فتأتيهم بآية ولو شاء الله لجمعهم على الهدى فلا تكونن من الجاهلين } [الأنعام: 35].

و { ثُمّ } في قوله: { ثم يحكم الله آياته } للترتيب الرتبي، لأنّ إحكام الآيات وتقريرها أهمّ من نَسخ ما يُلقي الشيطان إذ بالإحكام يتضح الهُدى ويزدادُ ما يلقيه الشيطان نسخاً.

وجملة { والله عليم حكيم } معترضة.

ومعنى هذه الآية: أن الأنبياء والرسل يرجون اهتداء قومهم ما استطاعوا فيبلغونهم ما ينزل إليهم من الله ويعظونهم ويدعونهم بالحجة والمجادلة الحسنة حتى يظنوا أن أمنيتهم قد نجحت ويقترب القوم من الإيمان، كما حكى الله عن المشركين قولهم: { { أهذا الذي بعث الله رسولاً إن كاد ليضلنا عن آلهتنا لولا أن صبرنا عليها } [الفرقان: 41 - 42] فيأتي الشيطان فلا يزال يوسوس في نفوس الكفار فينكصون على أعقابهم، وتلك الوساوس ضروب شتى من تذكيرهم بحب آلهتهم، ومن تخويفهم بسوء عاقبة نبذ دينهم، ونحو ذلك من ضروب الضلالات التي حُكيت عنهم في تفاصيل القرآن، فيتمسك أهل الضلالة بدينهم ويصدّون عن دعوة رسلهم، وذلك هو الصبر الذي في قوله: { { لولا أن صبرنا عليها } [الفرقان: 42] وقوله: { وانطلق الملأ منهم أن امشوا واصبروا على آلهتكم } [ص: 6]. وكلما أفسد الشيطان دعوة الرّسل أمرَ الله رسلَه فعاودوا الإرشاد وكرروه وهو سبب تكرر مواعظ متماثلة في القرآن، فبتلك المعاودة يُنسخ ما ألقاه الشيطان وتُثبت الآيات السالفة. فالنسخ: الإزالة، والإحكام: التثبيت. وفي كلتا الجملتين حذف مضاف، أي ينسخ آثارَ ما يُلقي الشيطان، ويُحكم آثارَ آياته.

واللامان في قوله { ليجعل } وفي قوله { وليعْلَمَ } متعلقان بفعل { ينسخ الله } فإن النسخ يقتضي منسوخاً، وفي { يجعل }ضميرٌ عائد إلى الله في قوله: { فينسخ الله }.

والجعل هنا: جَعل نظام ترتب المسببات على أسبابها، وتكويننِ تفاوت المدارك ومراتب درجاتها. فالمعنى: أنّ الله مكّن الشيطان من ذلك الفعل بأصل فطرته من يوم خلق فيه داعية الإضلال، ونسخ ما يلقيه الشيطان بواسطة رسُله وآياته ليكون من ذلك فتنة ضلال كفر وهدي إيمان بحسب اختلاف القابليات. فهذا كقوله تعالى: { قال رب بما أغويتني لأزينن لهم في الأرض ولأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين قال هذا صراط علي مستقيم إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين } [الحجر: 39 -40].

ولام { ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة } مستعار لمعنى الترتب مثل اللام في قوله تعالى: { فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدواً } [القصص: 8]. وهي مستعارة لمعنى التعقيب الذي حقه أن يكون بحرف الفاء، أي تحصل عقب النسخ الذي فعله الله فتنةُ من افتتن من المشركين بانصرافهم عن التأمل في أدلة نسخ ما يلقيه الشيطان، وعن استماع ما أحكم الله به آياته، فيستمر كفرهم ويقوى.

وأما لام { وليعلم الذين أوتوا العلم أنه الحق من ربك } فهي على أصل معنى التّعليل، أي ينسخ الله ما يلقي الشيطان لإرادة أن يعلم المؤمنون أنه الحق برسوخ ما تمناه الرسول والأنبياء لهم من الهدى كما يحصل لهم بما يحكم الله من آياته ازدياد الهدى في قلوبهم.

و{ الذين في قلوبهم مرض } هم المتردّدون في قبول الإيمان. و{ القاسية قلوبهم } هم الكافرون المصممون على الكفر. والفريقان هم المراد بــــ { الظالمين } في قوله: { وإن الظالمين لفي شقاق بعيد }. فذكر { الظالمين } إظهار في مقام الإضمار للإيماء إلى أن علّة كونهم في شقاق بعيد هي ظلمهم، أي كفرهم.

والشقاق: الخلاف والعداوة.

والبعيد هنا مستعمل في معنى: البالغ حدّاً قوياً في حقيقته. تشبيهاً لانتشار الحقيقة فيه بانتشار المسافة في المكان البعيد كما في قوله تعالى { فذو دعاء عريض } [فصلت: 51] أي دعاء كثير مُلح.

وجملة { وإن الظالمين لفي شقاق بعيد } معترضة بين المتعاطفات.

و{ الذين أوتوا العلم } هم المؤمنون بقرينة مقابلته بــــ { الذين في قلوبهم مرض } وبقوله { وإن الله لهاد الذين آمنوا إلى صراط مستقيم }. فالمراد بالعلم الوحي والكُتب التي أوتيها أصحاب الرسل السابقين فإنهم بها يصيرون من أهل العلم.

وإطلاق { الذين أوتوا العلم } على المؤمنين تكرر في القرآن.

وهذا ثناء على أصحاب الرسل بأنهم أوتوا العلم، وهو علم الدّين الذي يبلغهم الرسل - عليهم الصلاة والسلام -، فإن نور النُّبوءة يشرق في قلوب الذين يصحبون الرسول. ولذلك تجد من يصحب الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد يكون قبل الإيمان جِلفاً فإذا آمن انقلب حكيماً، مثل عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -.

وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - "أصحابي كالنجوم بأيّهم اقتديتم اهتديتم" .

وضمير { أنه الحق } عائد إلى العلم الذي أوتوه، أي ليزدادوا يقيناً بأن الوحي الذي أوتوه هو الحق لا غيره مما ألقاه الشيطان لهم من التشكيك والشبه والتضليل، فالقصر المستفاد من تعريف الجزأين قصر إضافي. ويجوز أن يكون ضمير { أنه }عائداً إلى ما تقدم من قوله { فينسخ الله } إلى قوله { ثم يحكم الله آياته }، أي أن المذكور هو الحق، كقول رُؤبة:

فيها خطوط من سواد وبلقكأنه في الجِلد توليع البَهق

أي كان كالمذكور.

وقوله { فيؤمنوا به } معناه: فيزدادوا إيماناً أو فيؤمنوا بالناسخ والمحكَم كما آمنوا بالأصل.

والإخباتُ: الاطمئنان والخشوع. وتقدم آنفاً عند قوله تعالى: { { وبشر المخبتين } [الحج: 34]، أي فيستقر ذلك في قلوبهم كقوله تعالى: { { قال بلى ولكن ليطمئن قلبي } [البقرة: 260].

وبما تلقيتَ في تفسير هذه الآية من الانتظام البيّن الواضح المستقل بدلالته والمستغني بنَهله عن عُلالته، والسالم من التكلّفات والاحتياج إلى ضميمة القصص ترى أن الآية بمعزل عما ألصقه بها الملصقون والضعفاء في علوم السُّنّة، وتلقاه منهم فريق من المفسرين حباً في غرائب النوادر دون تأمل ولا تمحيص، من أن الآية نزلت في قصة تتعلق بسورة النجم فلم يكتفوا بما أفسدوا من معنى الآية حتى تجاوزوا بهذا الإلصاق إلى إفساد معاني سورة النجم، فذكروا في ذلك روايات عن سعيد بن جبير، وابن شهاب، ومحمد بن كعب القرطبي، وأبي العالية، والضحاك وأقربُها رواية عن ابن شهاب وابن جبير والضحاك قالوا: " إنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - جلس في ناد من أندية قُريش كثير أهله من مسلمين وكافرين، فقرأ عليهم سورة النجم فلما بلغ قوله: { أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى } [النجم: 19 - 20] ألقى الشيطان بين السامعين عقب ذلك قوله: تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لترتجى ففرح المشركون بأن ذكَر آلهتهم بخير، وكان في آخر تلك السورة سجدة من سجود التلاوة، فلما سجد في آخر السورة سجد كلّ من حضر من المسلمين والمشركين، وتسامع الناس بأن قُريشاً أسلموا حتى شاع ذلك ببلاد الحبشة، فرجع من مهاجرة الحبشة نفرٌ منهم عثمان بن عفان إلى المدينة، وأن النبي لم يشعر بأن الشيطان ألقى في القوم، فأعلمه جبريل عليه السلام فاغتمّ لذلك فنزل قوله تعالى: { وما أرسلنا من قبلك } الآية تسلية له" .

وهي قصة يجدها السامع ضِغثاً على إبَالة، ولا يلقي إليها النِّحرير بالَه. وما رُويت إلا بأسانيد واهية ومنتهاها إلى ذكر قصة، وليس في أحد أسانيدها سماع صحابي لشيء في مجلس النبي - صلى الله عليه وسلم - وسندها إلى ابن عباس سندٌ مطعون. على أنّ ابن عباس يوم نزلت سورة النجم كان لا يحضر مجالس النبي - صلى الله عليه وسلم - وهي أخبار آحاد تعارض أصول الدين لأنها تخالف أصل عصمة الرسول - صلى الله عليه وسلم - لا التباس عليه في تلقي الوحي. ويكفي تكذيباً لها قوله تعالى: { وما ينطق عن الهوى } [النجم: 3] وفي معرفة الملكَ. فلو رووها الثقات لوجب رفضها وتأويلها فكيف وهي ضعيفة واهية. وكيف يروج على ذي مُسكة من عقل أن يجْتمع في كلامٍ واحد تسفيهِ المشركين في عبادتهم الأصنام بقوله تعالى: { { أفرأيتم اللات والعزى } [النجم: 19] إلى قوله: { { ما أنزل الله بها من سلطان } [النجم: 23] فيقع في خلال ذلك مدحها بأنها «الغرانيق العلى وأن شفاعتهن لترتجى». وهل هذا إلا كلام يلعنُ بعضُه بعضاً. وقد اتفق الحاكون أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قرأ سورة النجم كلها حتى خاتمتِها { { فاسجدوا لله واعبدوا } [النجم: 62] لأنهم إنما سجدوا حين سجد المسلمون، فدلّ على أنهم سمعوا السورة كلها وما بين آية { { أفرأيتم اللات والعزى } [النجم: 19] وبين آخر السورة آيات كثيرة في إبطال الأصنام وغيرها من معبودات المشركين، وتزييف كثير لعقائد المشركين فكيف يصحّ أن المشركين سجدوا من أجل الثناء على آلهتهم. فإن لم تكن تلك الأخبار مكذوبة من أصلها فإن تأويلها: أن بعض المشركين وجدوا ذكر اللات والعُزّى فُرصة للدخَل لاختلاق كلمات في مدحهنّ، وهي هذه الكلمات وروّجُوها بين الناس تأنيساً لأوليائهم من المشركين وإلقاء للريب في قلوب ضعفاء الإيمان.

وفي «شرح الطيبي على الكشاف» نقلاً عن بعض المؤرّخين: أن كلمات «الغرانيق...» (أي هذه الجمل) من مفتريات ابن الزِّبعرى. ويؤيد هذا ما رواه الطبري عن الضحاك: «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنزل عليه قصةُ آلهة العرب (أي قوله تعالى: { أفرأيتم اللات والعزى } [النجم: 19] الخ) فجعَل يتلو: اللاّتَ والعُزّى (أي الآية المشتملة على هذا) فسمع أهل مكة نبي الله يذكر آلهتهم ففرحوا ودنوا يستمعون فألقَى الشيطان تلك الغرانيق العُلَى مِنها الشفاعة ترتجَى» فإن قوله: «دنوا يستمعون فألقى الشيطان» الخ يؤذن بأنهم لم يسمعوا أول السورة ولا آخرها وأن شيطانهم ألقى تلك الكلمات. ولعل ابن الزبعرى كانت له مقدرة على محاكاة الأصوات وهذه مقدرة توجد في بعض الناس. وكنت أعرف فتى من أترابنا ما يحاكي صوت أحد إلا ظنه السامع أنه صوتُ المُحاكَى.

وأما تركيب تلك القصة على الخبر الذي ثبت فيه أنّ المشركين سَجدوا في آخر سورة النجم لما سجد المسلمون، وذلك مروي في الصحيح، فذلك من تخليط المؤلفين.

وكذلك تركيب تلك القصة على آية سورة الحجّ. وكم بين نزول سورة النجم التي هي من أوائل السور النازلة بمكة وبين نزول سورة الحج التي بعضها من أول ما نزل بالمدينة وبعضها من آخر ما نزل بمكة.

وكذلك ربط تلك القصة بقصة رجوع من رَجع من مهاجرة الحبشة. وكم بين مدّة نزول سورة النجم وبين سنة رجوع من رجع من مهاجرة الحبشة.

فالوجه: أن هذه الشائعة التي أشيعت بين المشركين في أول الإسلام، إنما هي من اختلاقات المستهزئين من سفهاء الأحلام بمكة مثل ابن الزبعرى، وأنهم عمدوا إلى آية ذُكرت فيها اللات والعُزّى ومناةَ فركّبوا عليها كلمات أخرى لإلقاء الفتنة في الناس وإنما خَصُّوا سورة النجم بهذه المرجَفة لأنهم حَضروا قراءتها في المسجد الحرام وتعلقت بأذهانهم وتطلباً لإيجاد المعذرة لهم بين قومهم على سجودهم فيها الذي جعله الله معجزة للنبي - صلى الله عليه وسلم - وقد سرى هذا التعسف إلى إثبات معنى في اللغة، فزعموا أن { تمنّى } بمعنى: قرأ، والأمنية: القراءة، وهو ادّعاء لا يوثق به ولا يُوجد له شاهد صريح في كلام العرب. وأنشدوا بيتاً لحسان بن ثابت في رثاء عثمان رضي الله عنه:

تمنّى كتاب الله أول لَيْلهوآخره لاقى حِمام المَقادر

وهو محتمل أن معناه تمنّى أن يقرأ القرآن في أول الليل على عادته فلم يتمكّن من ذلك بتشغيب أهل الحصار عليه وقتلوه آخر الليل. ولهذا جعله تمنياً لأنه أحبَ ذلك فلم يستطع. وربما أنشدوه برواية أخرى فظُنّ أنه شاهد آخر، وربما توهَموا الرواية الثانية بيتاً آخر. ولم يذكر الزمخشري هذا المعنى في الأساس }. وقد قدمنا ذلك عند قوله تعالى: { ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني } في سورة[البقرة: 78].

وجملة { إن الله لهاد الذين آمنوا إلى صراط مستقيم } معترضة. والواو للاعتراض، والذين أوتوا العلم هم المؤمنون. وقد جمع لهم الوصفان كما في قوله تعالى: { { وقال الذين أوتوا العلم والإيمان لقد لبثتم في كتاب الله إلى يوم البعث } في سورة [الروم: 56]. وكما في سورة [سبأ: 6] { ويرى الذين أوتوا العلم الذي أنزل إليك من ربك هو الحق } }. فإظهار لفظ { الذين آمنوا } في مقام ضمير { الذين أوتوا العلم } لقصد مدحهم بوصف الإيمان، والإيماء إلى أن إيمانهم هو سبب هديهم. وعكسه قوله تعالى: { إن الله لا يهدي من هو كاذب كفار } [الزمر: 3]. فالمراد بالهُدى في كلتا الآيتين عناية الله بتيسيره وإلا فإن الله هدى الفريقين بالدعوة والإرشاد فمنهم من اهتدى ومنهم من كفر.

وكتب في المصحف { لهاد } بدون ياء بعد الدال واعتباراً بحالة الوصل على خلاف الغالب. وفي الوقف يثبت يعقوب الياء بخلاف البقية.