خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

حَتَّىٰ إِذَآ أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِٱلْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ
٦٤
لاَ تَجْأَرُواْ ٱلْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِّنَّا لاَ تُنصَرُونَ
٦٥
قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ فَكُنتُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ تَنكِصُونَ
٦٦
مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِراً تَهْجُرُونَ
٦٧
-المؤمنون

التحرير والتنوير

{ حتى } ابتدائية. وقد تقدم ذكرها في سورة الأنبياء عند قوله تعالى: { { حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج } [الأنبياء: 96].

و(حتى) الابتدائية. يكون ما بعدها ابتداء كلام، فليس الدال على الغاية لفظاً مفرداً كما هو الشأن مع (حتى) الجارة و(حتى) العاطفة، بل هي غاية يدل عليها المقام والأكثر أن تكون في معنى التفريع.

وبهذه الغاية صار الكلام تهديداً لهم بعذاب سيحل بهم يجأرون منه ولا ملجأ لهم منه. والظاهر أنه عذاب في الدنيا بقرينة قوله: { { ولو رحمناهم وكشفنا ما بهم من ضر للجّوا في طغيانهم يعمهون } [المؤمنون: 75].

و{ إذا } الأولى ظرفية فيها معنى الشرط فلذلك كان الأصل والغالب فيها أن تدل على ظرف مستقبل. و{ إذا } الثانية فجائية داخلة على جواب شرط (إذا).

والمترَفون: المُعْطَون تَرَفاً وهو الرفاهية، أي المنعَّمون كقوله تعالى: { { وذرني والمكذبين أولي النعمة } [المزمل: 11] فالمترفون منهم هم سادتهم وأكابرهم والضمير المضاف إليه عائد إلى جميع المشركين أصحاب الغمرة.

وإنما جعل الأخذ واقعاً على المترفين منهم لأنهم الذين أضلوا عامة قومهم ولولا نفوذ كلمتهم على قومهم لاتبعت الدهماء الحق لأن العامة أقرب إلى الإنصاف إذا فهموا الحق بسبب سلامتهم من جل دواعي المكابرة من توقع تقلص سؤدد وزوال نعيم. وكذلك حقّ على قادة الأمم أن يؤاخذوا بالتبعات اللاحقة للعامة من جراء أخطائهم ومغامرتهم عن تضليل أو سوء تدبر، وأن يُسألوا عن الخيبة أن ألقوا بالذين اتبعوهم في مهواة الخطر كما قال تعالى: { { وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا ربنا آتهم ضعفين من العذاب والعنهم لعناً كبيراً } [الأحزاب: 67، 68]، وقال { { ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يُضلونهم بغير علم ألا ساء ما يزرون } [النحل: 25].

وتخصيص المترَفين بالتعذيب مع أن شأن العذاب الإلهي إن كان دنيوياً أن يعم الناس كلهم إيماء إلى أن المترفين هم سبب نزول العذاب بالعامة، ولأن المترفين هم أشد إحساساً بالعذاب لأنهم لم يعتادوا مس الضراء والآلام. وقد علم مع ذلك أن العذاب يعم جميعهم من قوله: { إذا هم يجئرون } فإن الضميرين في { إذا هم } و{ يجأرون } عائدان إلى ما عاد إليه ضمير { مترفيهم } بقرينة قوله: { قد كانت آياتي تتلى عليكم } إلى قوله { سامراً تهجرون } فإن ذلك كان من عمل جميعهم.

ويجوز أن يكون المراد بالمترفين جميع المشركين فتكون الإضافة بيانية ويكون ذكر المترفين تهويلاً في التهديد تذكيراً لهم بأن العذاب يزيل عنهم ترفهم؛ فقد كان أهل مكة في ترف ودعة إذ كانوا سالمين من غارات الأقوام لأنهم أهل الحرم الآمن وكانوا تُجْبَى إليهم ثمرات كل شيء وكانوا مكرَّمين لدى جميع القبائل، قال الأخطل:

فأما الناس ما حاشا قريشاًفإنا نحن أفضلهم فعالا

وكانت أرزاقهم تأتيهم من كل مكان قال تعالى: { { الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف } [قريش: 4]، فيكون المعنى: حتى إذا أخذناهم وهم في ترفهم، كقوله: { { وذرني والمكَذِّبين أولي النعمة ومَهِّلْهم قليلاً } [المزمل: 11].

ويجوز أن يكون المراد حلول العذاب بالمترفين خاصة، أي بسادتهم وصناديدهم وهو عذاب السيف يوم بدر فإنه قتل يومئذ كبراء قريش وهم أصحاب القليب. قال شداد ابن الأسود:

وماذا بالقليب قليب بدرمن الشيزى تزيَّن بالسنام
وماذا بالقليب قليب بدرمن القينات والشَّرب الكرام

يعني ما ضمنه القليب من رجال كانت سجاياهم الإطعام والطرب واللذات.

وضمير { إذا هم يجأرون } على هذا الوجه عائد إلى غير المترفين لأن المترفين قد هلكوا فالبقية يجأرون من التلهف على ما أصاب قومهم والإشفاق أن يستمر القتل في سائرهم فهم يجأرون كلما صرع واحد من سادتهم ولأن أهل مكة عجبوا من تلك المصيبة ورَثَوا أمواتهم بالمراثي والنياحات.

ثم الظاهر أن المراد من هذا العذاب عذاب يحل بهم في المستقبل بعد نزول هذه الآية التي هي مكية فيتعين أن هذا عذاب مسبوق بعذاب حل بهم قبله كما يقتضيه قوله تعالى بعد { { ولقد أخذناهم بالعذاب } [المؤمنون: 76] الآية.

ولذا فالعذاب المذكور هنا عذاب هُددوا به، وهو إما عذاب الجوع الثاني الذي أصاب أهل مكة بدعوة النبي صلى الله عليه وسلم بعد هجرته. ذلك أنه لما أسلم ثمامة بن أُثال الحنفي عقب سرية خالد بن الوليد إلى بني كلب التي أخذ فيها ثمامة أسيراً وأسلم فمنع صدور الميرة من أرض قومه باليمامة إلى أهل مكة وكانت اليمامة مصدر أقواتهم حتى سميت ريف أهل مكة فأصابهم جوع حتى أكلوا العِلهِز والجيف سبع سنين، وإما عذاب السيف الذي حل بهم يوم بدر.

وقيل إن هذا العذاب عذاب وقع قبل نزول الآية وتعين أنه عذاب الجوع الذي أصابهم أيام مقام النبي صلى الله عليه وسلم في مكة ثم كشفه الله عنهم ببركة نبيه وسلامة للمؤمنين، وذلك المذكور في سورة الدخان (12) { { ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون } }.

وقيل العذاب عذاب الآخرة. ويبعد هذا القول أنه سيذكر عذاب الآخرة في قوله تعالى: { { حتى إذا جاء أحدهم الموت قال رب ارجعون... } [المؤمنون: 99] الآيات إلى قوله: { { إن لبثتم إلا قليلاً لو أنكم كنتم تعلمون } [المؤمنون: 114] كما ستعلمه.

وتجيء منه وجوه من الوجوه المتقدمة لا يخفى تقريرها.

ومعنى { يجأرون } يصرخون ومصدره الجأر. والاسم الجُؤَار بضم الجيم وهو كناية عن شدة ألم العذاب بحيث لا يستطيعون صبراً عليه فيصدر منهم صراخ التأوه والويل والثبور.

وجملة { لا تَجْأَرُوا اليوم } معترضة بين ما قبلها وما تفرع عليه من قوله: { { أفلم يدبروا القول } [المؤمنون: 68] وهي مقول قول محذوف، أي تقول لهم: لا تجأروا اليوم.

وهذا القول كلام نفسي أعلمهم الله به لتخويفهم من عذاب لا يغني عنهم حين حلوله جؤار إذ لا مجيب لجؤارهم ولا مغيث لهم منه إذ هو عذاب خارج عن مقدور الناس لا يطمع أحد في تولي كشفه. وهذا تأييس لهم من النجاة من العذاب الذي هُددوا به. وإذا كان المراد بالعذاب عذاب الآخرة فالقول لفظي والمقصود منه قطع طماعيتهم في النجاة.

والنهي عن الجؤار مستعمل في معنى التسوية. وورود النهي في معنى التسوية مقيس على ورود الأمر في التسوية. وعثرت على اجتماعهما في قوله تعالى: { { اصبروا أو لا تصبروا سواءٌ عليكم } [الطور: 16].

وجملة { إنكم منا لا تنصرون } تعليل للنهي المستعمل في التسوية، أي لا تجأروا إذ لا جدوى لِجُؤَاركم إذ لا يقدر مجير أن يجيركم من عذابنا، فموقع (إن) إفادة التعليل لأنها تغني غناء فاء التفريع.

وضمّن { تنصرون } معنى النجاة فعدي الفعل بــــ(مِن)، أي لا تنجون من عذابنا. فثَمّ مضاف محذوف بعد (مِن)، وحذف المضاف في مثل هذا المقام شائع في الاستعمال. وتقديم المجرور للاهتمام بجانب الله تعالى ولرعاية الفاصلة.

وقوله: { قد كانت آياتي تتلى عليكم } استئناف. والخبر مستعمل في التنديم والتلهيف. وإنما لم تعطف الجملة على جملة { إنكم منا لا تنصرون } لقصد إفادة معنى بها غير التعليل إذ لا كبير فائدة في الجمع بين علتين.

والآيات هنا هي آيات القرآن بقرينة { تتلى } إذ التلاوة القراءة.

والنكوص: الرجوع من حيث أتى، وهو الفرار. والأعقاب: مؤخر الأرجل. والنكوص هنا تمثيل للإعراض وذكر الأعقاب ترشيح للتمثيل. وقد تقدم في قوله تعالى: { { فلما تراءت الفئتان نكص على عقبيه } في سورة الأنفال (48).

وذكر فعل (كنتم) للدلالة على أن ذلك شأنهم. وذكر المضارع للدلالة على التكرر فلذلك خُلق منهم مُعاد مكرورٌ.

وضمير { به } يجوز أن يكون عائداً على الآيات لأنها في تأويل القرآن فيكون { مستكبرين } بمعنى معرضين استكباراً ويكون الباء بمعنى (عن)، أو ضمّن { مستكبرين } معنى ساخرين فعدي بالباء للإشارة إلى تضمينه.

ويجوز أيضاً أن يكون الضمير للبيت أو المسجد الحرام وإن لم يتقدم له ذكر لأنه حاضر في الأذهان فلا يسمع ضمير لم يتقدم له معاد إلا ويُعلم أنه المقصود بمعونة السياق لا سيما وقد ذكرت تلاوة الآيات عليهم. وإنما كان النبي صلى الله عليه وسلم يتلو عليهم آيات القرآن في المسجد الحرام إذ هو مجتمعهم. فتكون الباء للظرفية. وفيه إنحاء عليهم في استكبارهم. وفي كون استكبارهم في ذلك الموضع الذي أمر الله أن يكون مظهراً للتواضع ومكارم الأخلاق، فالاستكبار في الموضع الذي شأن القائم فيه أن يكون قانتاً لله حنيفاً أشنعُ استكبار.

وعن منذر بن سعيد البلوطي الأندلسي قاضي قرطبة أن الضمير في قوله { به } للنبيء صلى الله عليه وسلم والباء حينئذٍ للتعدية، وتضمين { مستكبرين } معنى مكذبين لأن استكبارهم هو سبب التكذيب.

{ وسامراً } حال ثانية من ضمير المخاطبين، أي حال كونكم سامرين. والسامر: اسم لجمع السامرين، أي المتحدثين في سمر الليل وهو ظلمته، أو ضوء قمره. وأطلق السمر على الكلام في الليل، فالسامر كالحاج والحاضر والجامل بمعنى الحجاج والحاضرين وجماعة الجمال. وعندي أنه يجوز أن يكون { سامراً } مراداً منه مجلس السمر حيث يجتمعون للحديث ليلاً ويكون نصبه على نزع الخافض، أي في سامركم، كما قال تعالى: { { وتأتون في ناديكم المنكر } [العنكبوت: 29].

{ وتُهجِرون } بضم التاء وسكون الهاء وكسر الجيم في قراءة نافع مضارع أهجر: إذا قال الهُجر بضم الهاء وسكون الجيم وهو اللغو والسب والكلام السيء. وقرأ بقية العشرة بفتح التاء من هجر إذا لغا. والجملة في موضع الصفة لــــ{ سامراً }، أي في حال كونكم متحدثين هجراً وكان كبراء قريش يسمرون حول الكعبة يتحدثون بالطعن في الدين وتكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم