خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

قَالَ فَعَلْتُهَآ إِذاً وَأَنَاْ مِنَ ٱلضَّالِّينَ
٢٠
فَفَرَرْتُ مِنكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ ٱلْمُرْسَلِينَ
٢١
وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدتَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ
٢٢
-الشعراء

التحرير والتنوير

كانت رباطة جأش موسى وتوكّله على ربّه باعثةً له على الاعتراف بالفعلة وذكر ما نشأ عنها من خيرٍ له، ليدل على أنه حَمِد أثرها وإن كان قد اقترفها غير مُقَدِّر ما جرّته إليه من خير؛ فابتدأ بالإقرار بفعلته ليعلم فرعون أنه لم يجد لكلامه مدخل تأثير في نفس مُوسى. وأخر موسى الجواب عن قول فرعون { { ألم نربّك فينا وليداً ولبثت فينا من عمرك سنين } [الشعراء: 18] لأنه علم أن القصد منه الإقصارُ من مواجهته بأن ربّاً أعلى من فرعون أرسل موسى إليه. وابتدأ بالجواب عن الأهم من كلام فرعون وهو { وفعلتَ فعلتك } [الشعراء: 19] لأنه علم أنه أدخل في قصد الإفحام، وليظهر لفرعون أنه لا يَوْجَل من أن يطالبوه بذَحل ذلك القتيل ثقة بأن الله ينجيه من عدوانهم.

وكلمة { إذاً } هنا حرف جواب وجزاء، فنونُه الساكنة ليست تنويناً بل حرفاً أصلياً للكلمة، وقدم { فعلتها } على (إذن) مبادرةً بالإقرار ليَكون كناية عن عدم خشيته من هذا الإقرار. ومعنى المجازاة هنا ما بيّنه في «الكشاف»: أن قول فرعون { فعلتَ فعلتك } [الشعراء: 19] يتضمن معنى جازيتَ نعمتنا بما فعلتَ؛ فقال له موسى: نعم فعلتها مُجازيا لك، تسليماً لقوله، لأن نعمته كانت جديرة بأن تجازى بمثل ذلك الجزاء. وهذا أظهر ما قيل في تفسير هذه الآية. وقال القزويني في «حاشية الكشاف» قال بعض المحققين: { إذاً } ظرف مقطوع عن الإضافة مُؤْثَراً فيه الفتح على الكسر لخفته وكثرةِ الدوران، ولعله يعني ببعض المحققين رضي الدِّين الاسترابادي في «شرح الكافية الحاجبية» فإنه قال في باب الظروف: والحق أن (إذْ) إذا حذف المضاف إليه منه وأبدل منه التنوين في غير نحو يومئذ، جاز فتحه أيضاً، ومنه قوله تعالى: { فعلتها إذاً وأنا من الضالين } أي فعلتها إذْ ربَّيتني، إذ لا معنى للجزاء ههنا اهــــ. فيكون متعلقاً بــــ{ فعلتُها } مقطوعاً عن الإضافة لفظاً لدلالة العامل على المضاف إليه. والمعنى: فعلتُها زمناً فعلتُها، فتذكيري بها بعد زمن طويل لا جدوى له. وهذا الوجه في { إذاً } في الآية هو مختار ابن عطية والرضي في «شرح الحاجبية» والدماميني في «المزج على المغني»، وظاهر كلام القزويني في «الكشف على الكشاف» أنه يختاره.

ومعنى الجزاء في قوله: { فعلتها إذاً } أن قول فرعون { { وفعلتَ فعلتك التي فعلت } [الشعراء: 19] قصد به إفحام موسى وتهديده، فجعل موسى الاعتراف بالفعلة جزاء لذلك التهديد على طريقة القول بالموجَب، أي لا أتهيّب ما أردت.

وجعل مُوسى نفسه من الضالين إن كان مراد كلامه الذي حكت الآية معناه إلى العربية المعنَى المشهورَ للضلال في العربية وهو ضلال الفساد فيكون مراده: أن سَوْرة الغضب أغفلته عن مراعاة حرمة النفس وإن لم يكن يومئذ شريعة (فإن حفظ النفوس مما اتفق عليه شرائع البشر وتوارثوه في الفِتَر، ويؤيد هذا قوله في الآية الأخرى { قال ربّ إني ظلمت نفسي فاغفر لي فغفر له } [القصص: 16])؛ وإن كان مراده معنى ضلال الطريق، أي كنت يومئذ على غير معرفة بالحق لعدم وجود شريعة، وهو معنى الجهالة كقوله تعالى: { ووجدك ضالاً فهدى } [الضحى: 7] فالأمر ظاهر.

وعلى كلا الوجهين فجواب موسى فيه اعتراف بظاهر التقرير وإبطال لما يستتبعه من جعله حجة لتكذيبه برسالته عن الله، ولذلك قابل قول فرعون { { وأنت من الكافرين } [الشعراء: 19] بقوله: { وأنا من الضالين } إبطالاً لأن يكون يومئذ كافراً، ولذلك كان هذا أهم بالإبطال.

وبهذا يظهر وجه الاسترسال في الجواب بقوله: { فوهب لي ربي حكماً وجعلني من المرسلين }، أي فكان فراري قد عقبه أن الله أنعم عليّ فأصلح حالي وعلمني وهداني وأرسلني. فليس ذلك من موسى مجرد إطناب بل لأنه يفيد معنى أن الإنسان ابن يومه لا ابنُ أمسِه، والأحوال بأوَاخرها فلا عجب فيما قصدتَ فإن الله أعلم حيث يجعل رسالاته.

وقوله: { ففررت منكم } أي فراراً مبتدئاً منكم، لأنهم سبب فراره، وهو بتقدير مضاف، أي من خوفكم. والضمير لفرعون وقومِه الذين ائتمروا على قتل موسى، كما قال تعالى: { وجاء رجل من أقصى المدينة يسعى قال يا موسى إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك } [القصص: 20]. والحكم: الحِكمة والعلم، وأراد بها النبوءة وهي الدرجة الأولى حين كلمه ربّه. ثم قال: { وجعلني من المرسلين } أي بعد أن أظهر له المعجزة وقال له: { { إني اصطفيتك على الناس } [الأعراف: 144] أرسله بقوله: { { اذهَب إلى فرعون إنه طغى } [طه: 24].

ثم عاد إلى أول الكلام فكرّ على امتنانه عليه بالتربية فأبطله وأبى أن يسميه نعمة، فقوله: { وتلك نعمة } إشارة إلى النعمة التي اقتضاها الامتنان في كلام فرعون إذ الامتنان لا يكون إلا بنعمة.

ثم إن جعلت جملة { أن عبدت } بياناً لاسم الإشارة كان ذلك لزيادة تقرير المعنى مع ما فيه من قلب مقصود فرعون وهو على حد قوله تعالى: { وقضينا إليه ذلك الأمر أنّ دابرَ هؤلاء مقطوعٌ مصبحين } [الحجر: 66] إذ قوله { أن دابر هؤلاء } بيان لقوله: { ذلك الأمر }.

ويجوز أن يكون { أن عبدت } في محل نصب على نزع الخافض وهو لام التعليل والتقدير: لأن عبَّدتَّ بني إسرائيل.

وقيل الكلام استفهام بحذف الهمزة وهو استفهام إنكار. ومعنى { عبدت } ذَلَّلْت، يقال: عبَّد كما يقال:أعبد بهمزة التعدية. أنشد أيمة اللغة:

حتّامَ يُعْبِدني قومي وقد كَثُرتْفيهم آباعِرُ ما شاءوا وَعُبدان

وكلام موسى على التقادير الثلاثة نقض لامتنان فرعون بقلب النعمة نقمة بتذكيره أن نعمة تربيته ما كانت إلا بسبب إذلال بني إسرائيل إذ أمر فرعون باستئصال أطفال بني إسرائيل الذي تسبب عليه إلقاء أمّ موسى بطفلها في اليمّ حيث عثرت عليه امرأة فرعون ومن معها من حاشيتها وكانوا قد علموا أنه من أطفال إسرائيل بسِماتِ وجهه ولون جلده، ولذلك قالت امرأة فرعون { { قُرتُ عين لي ولك لا تَقتلُوه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولداً } [القصص: 9]. وفيه أن الإحسان إليه مع الإساءة إلى قومه لا يزيد إحساناً ولا منة.