خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَىٰ فَبَغَىٰ عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ ٱلْكُنُوزِ مَآ إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِٱلْعُصْبَةِ أُوْلِي ٱلْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لاَ تَفْرَحْ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُحِبُّ ٱلْفَرِحِينَ
٧٦
وَٱبْتَغِ فِيمَآ آتَاكَ ٱللَّهُ ٱلدَّارَ ٱلآخِرَةَ وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ ٱلدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَآ أَحْسَنَ ٱللَّهُ إِلَيْكَ وَلاَ تَبْغِ ٱلْفَسَادَ فِي ٱلأَرْضِ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُحِبُّ ٱلْمُفْسِدِينَ
٧٧
-القصص

التحرير والتنوير

{ إِنَّ قَـٰرُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَىٰ فَبَغَىٰ عَلَيْهِمْ وَءَاتَيْنَاهُ مِنَ ٱلْكُنُوزِ مَآ إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِٱلْعُصْبَةِ أُوْلِى القُوَّةِ }

كان من صنوف أذى أيمة الكفر النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين، ومن دواعي تصلبهم في إعراضهم عن دعوته اعتزازهم بأموالهم وقالوا { لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم } [ الزخرف: 31] أي على رجل من أهل الثروة فهي عندهم سبب العظمة ونبزهم المسلمين بأنهم ضعفاء القوم، وقد تكرر في القرآن توبيخهم على ذلك كقوله { وقالوا نحن أكثر أموالاً وأولاداً } [ سبأ: 35] وقوله { وذرني والمكذبين أولي النعمة } [المزمل: 11] الآية. روى الواحدي عن ابن مسعود وغيره بأسانيد: إن الملأ من قريش وسادتهم منهم عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة والمطعم بن عدي والحارث بن نوفل. قالوا: «أيريد محمد أن نكون تبعاً لهؤلاء (يعنون خباباً، وبلالاً، وعماراً، وصهيباً) فلو طرد محمد عنه موالينا وعبيدنا كان أعظم له في صدورنا وأطمع له عندنا وأرجى لاتباعنا إياه وتصديقنا له فأنزل الله تعالى { ولا تطرد الذين يدعون ربهم } إلى قوله { بالشاكرين } [الأنعام: 52 - 53]. وكان فيما تقدم من الآيات قريباً قوله تعالى { { وما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا وزينتها } إلى قوله { من المحضرين } [القصص: 60 - 61] كما تقدم.

وقد ضرب الله الأمثال للمشركين في جميع أحوالهم بأمثال نظرائهم من الأمم السالفة فضرب في هذه السورة لحال تعاظمهم بأموالهم مثلاً بحال قارون مع موسى وأن مثل قارون صالح لأن يكون مثلاً لأبي لهب ولأبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب قبل إسلامه في قرابتهما من النبي صلى الله عليه وسلم وأذاهما إياه، وللعاصي بن وائل السهمي في أذاه لخباب بن الأرتّ وغيره، وللوليد بن المغيرة من التعاظم بماله وذويه. قال تعالى { ذرني ومن خلقت وحيداً وجعلت له مالا ممدوداً } [ المدثر: 11 - 12] فإن المراد به الوليد بن المغيرة.

فقوله { إن قارون كان من قوم موسى } اسئناف ابتدائي لذكر قصة ضربت مثلاً لحال بعض كفار مكة وهم سادتهم مثل الوليد بن المغيرة وأبي جهل بن هشام ولها مزيد تعلق بجملة { { وما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا وزينتها } [القصص: 60] إلى قوله { ثم هو يوم القيامة من المحضرين } [القصص: 61].

ولهذه القصة اتصال بانتهاء قصة جند فرعون المنتهية عند قوله تعالى { وما كنت بجانب الطور إذ نادينا } [القصص: 46] الآية.

و { قارون } اسم معرب أصله في العبرانية (قورح) بضم القاف مشبعة وفتح الراء، وقع في تعريبه تغيير بعض حروفه للتخفيف، وأجري وزنه على متعارف الأوزان العربية مثل طالوت، وجالوت، فليست حروفه حروف اشتقاق من مادة قرن.

و (قورح هذا ابن عم موسى عليه السلام دنيا)، فهو قورح بن يصهار بن قهات بن لاوى بن يعقوب. وموسى هو ابن عمرم المسمى عمران في العربية ابن قاهت فيكون يصاهر أخا عمرم، وورد في الإصحاح السادس عشر من سفر العدد أن (قُورَح) هذا تألب مع بعض زعماء بني إسرائيل مائتين وخمسين رجلاً منهم على موسى وهارون عليهما السلام حين جعل الله الكهانة في بني هارون من سبط (لاوى) فحسدهم قورح إذ كان ابن عمهم وقال لموسى وهارون: ما بالكما ترتفعان على جماعة الرب إن الجماعة مقدسة والرب معها فغضب الله على قورح وأتباعه وخسف بهم الأرض وذهبت أموال (قورح) كلها، وكان ذلك حـين كان بنو إسرائيل على أبواب (أريحا) قبل فتحها. وذكر المفسرون أن فرعون كان جعل (قورح) رئيساً على بني إسرائيل في مصر وأنه جمع ثروة عظيمة.

وما حكاه القرآن يبين سبب نُشُوء الحسد في نفسه لموسى لأن موسى لما جاء بالرسالة وخرج ببني إسرائيل زال تأمّر { قارون } على قومه فحقد على موسى. وقد أكثر القصاص من وصف بذخة قارون وعظمته ما ليس في القرآن. وما لهم به من برهان. وتلقفه المفسرون حاشا ابن عطية.

وافتتاح الجملة بحرف التوكيد يجوز أن يكون لإفادة تأكيد خبر { إن } وما عطف عليه وتعلق به مما اشتملت عليه القصة وهو سوء عاقبة الذين تغرهم أموالهم وتزدهيهم فلا يكترثون بشكر النعمة ويستخفون بالدين، ويكفرون بشرائع الله لظهور أن الإخبار عن قارون بأنه من قوم موسى ليس من شأنه أن يتردد فيه السامع حتى يؤكد له، فمصب التأكيد هو ما بعد قوله { إذ قال له قومه لا تفرح } إلى آخر القصة المنتهية بالخسف.

ويجوز أن تكون { إن } لمجرد الاهتمام بالخبر ومناط الاهتمام هو مجموع ما تضمنته القصة من العبر التي منها أنه من قوم موسى فصار عدواً له ولأتباعه، فأمره أغرب من أمر فرعون.

وعدل عن أن يقال: كان من بني إسرائيل، لما في إضافة { قوم } إلى { موسى } من الإيماء إلى أن لقارون اتصالاً خاصاً بموسى فهو اتصال القرابة.

وجملة { فبغى عليهم } معترضة بين جملة { إن قارون كان من قوم موسى } وجملة { وءاتيناه من الكنوز }، والفاء فيها للترتيب والتعقيب، أي لم يلبث أن بطر النعمة واجترأ على ذوي قرابته، للتعجيب من بغي أحد على قومه كما قال طرفة:

وظلم ذوي القربى أشد مضاضةعلى المرء من وقع الحسام المهنّد

والبغي: الاعتداء، والاعتداء على الأمة الاستخفاف بحقوقها، وأول ذلك خرق شريعتها. وفي الإخبار عنه بأنه { من قوم موسى } تمهيد للكناية بهذا الخبر عن إرادة التنظير بما عرض لرسول الله صلى الله عليه وسلم من بغي بعض قرابته من المشركين عليه.

وفي قوله { إن قارون كان من قوم موسى } محسّن بديعي وهو ما يسمى النثر المتزن، أي النثر الذي يجيء بميزان بعض بحور الشعر، فإن هذه الجملة جاءت على ميزان مصراع من بحر الخفيف، ووجه وقوع ذلك في القرآن أن الحال البلاغي يقتضي التعبير بألفاظ وتركيب يكون مجموعه في ميزان مصراع من أحد بحور الشعر.

وجملة { إن مفاتحه لتنوء بالعصبة } صلة { ما } الموصولة عند نحاة البصرة الذين لا يمنعون أن تقع { إن } في افتتاح صلة الموصول. ومنع الكوفيون من ذلك واعتُذر عنهم بأن ذلك غير مسموع في كلام العرب ولذلك تأولوا { ما } هنا بأنها نكرة موصوفة وأن الجملة بعدها في محل الصفة.

والمفاتح: جمع مفتح بكسر الميم وفتح المثناة الفوقيية وهو آلة الفتح، ويسمى المفتاح أيضاً. وجمعه مفاتيح وقد تقدم عند قوله تعالى { وعنده مفاتح الغيب } في سورة [الأنعام: 59].

و{ الكنوز }: جمع كنز وهو مختزن المال من صندوق أو خزانة، وتقدم في قوله تعالى { لولا أنزل عليه كنز } في سورة [هود: 12]، وأنه كان يقدر بمقدار من المال مثل ما يقولون: بدرة مال، وأنه كان يجعل لذلك المقدار خزانة أو صندوق يسعه ولكل صندوق أو خزانة مفتاحه. وعن أبي رزين لقيط بن عامر العُقيلي أحد الصحابة أنه قال «يكفي الكوفة مفتاح» أي مفتاح واحد، أي كنز واحد من المال له مفتاح، فتكون كثرة المفاتيح كناية عن كثرة الخزائن وتلك كناية عن وفرة المال فهو كناية بمرتبتين مثل:

جبان الكلب مهزول الفصيل

{ وتنوء): تثقل. ويظهر أن الباء في قوله { بالعصبة } باء الملابسة أن تثقل مع العصبة الذين يحملونها فهي لشدة ثقلها تثقل مع أن حملتها عصبة أولو قوة وليست هذه الباء باء السببية كالتي في قول امرىء القيس:

وأردف إعجازاً وناء بكلكل

ولا كمثال صاحب «الكشاف»: ناء به الحمل، إذا أثقله الحمل حتى أماله.

وأما قول أبي عبيدة بأن تركيب الآية فيه قلب، فلا يقبله من كان له قلب.

والعُصبة: الجماعة، وتقدم في سورة يوسف. وأقرب الأقوال في مقدارها قول مجاهد أنه من عشرة إلى خمسة عشر. وكان اكتسب الأموال في مصر وخرج بها.

{ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لاَ تَفْرَحْ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُحِبُّ ٱلْفَرِحِينَ * وَٱبْتَغِ فِيمَآ ءَاتَاكَ ٱللَّهُ ٱلدَّارَ ٱلاَْخِرَةَ }

{ إذ } ظرف منصوب بفعل (بغى عليهم) والمقصود من هذا الظرف القصة وليس القصد به توقيت البغي ولذلك قدره بعض المفسرين متعلقاً بــــ (أذكر) محذوفاً وهو المعني في نظائره من القصص.

والمراد بالقوم بعضهم إما جماعة منهم وهم أهل الموعظة وإما موسى عليه السلام أطلق عليه اسم القوم لأن أقواله قدوة للقوم فكأنهم قالوا قوله.

والفرح يطلق على السرور كما في قوله تعالى { وفرحوا بها } في [يونس: 22]. ويطلق على البطر والازدهاء، وهو الفرح المفرط المذموم، وتقدم في قوله تعالى { وفرحوا بالحياة الدنيا } في سورة [الرعد: 26] وهو التمحض للفرح. والفرح المنهيّ عنه هو المفرط منه، أي الذي تمحض للتعلق بمتاع الدنيا ولذات النفس به لأن الانكباب على ذلك يميت من النفس الاهتمام بالأعمال الصالحة والمنافسة لاكتسابها فينحدر به التوغل في الإقبال على اللذات إلى حضيض الإعراض عن الكمال النفساني والاهتمام بالآداب الدينية، فحذف المتعلق بالفعل لدلالة المقام على أن المعنى لا تفرح بلذات الدنيا معرضاً عن الدين والعمل للآخرة كما أفصح عنه قوله { وابتغ فيما ءاتاك الله الدار الآخرة }. وأحسب أن الفرح إذا لم يعلق به شيء دل على أنه صار سجية الموصوف فصار مراداً به العجب والبطر. وقد أشير إلى بيان المقصود تعضيداً لدلالة المقام بقوله { إن الله لا يحب الفرحين }، أي المفرطين في الفرح فإن صيغة (فعل) صيغة مبالغة مع الإشارة إلى تعليل النهي، فالجملة علة للتي قبلها، والمبالغة في الفرح تقتضي شدة الإقبال على ما يفرح به وهي تستلزم الإعراض عن غيره فصار النهي عن شدة الفرح رمزاً إلى الإعراض عن الجد والواجب في ذلك.

وابتغاء الدار الآخرة طلبها، أي طلب نعيمها وثوابها. وعلق بفعل الابتغاء قوله { فيما ءاتاك الله } بحرف الظرفية، أي اطلب بمعظمه وأكثره. والظرفية مجازية للدلالة على تغلغل ابتغاء الدار الآخرة في ما آتاه الله وما آتاه هو كنوز المال، فالظرفية هنا كالتي في قوله تعالى { وارزقوهم فيها واكسوهم } [النساء: 5] أي منها ومعظمها، وقول سبرة بن عمرو الفقعسي:

نحابي بها أكفاءنا ونهينهاونشرب في أثمانها ونقامر

أي اطلب بكنوزك أسباب حصول الثواب بالإنفاق منها في سبيل الله وما أوجبه ورغب فيه من القربان ووجوه البر.

{ وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ من الدنيا }.

جملة معترضة بين الجملتين الحافتين بها، والواو اعتراضية.

والنهي في { ولا تنس نصيبك } مستعمل في الإباحة. والنسيان كناية عن الترك كقوله في حديث الخيل "ولم ينس حق الله في رقابها" ، أي لا نلومك على أن تأخذ نصيبك من الدنيا أي الذي لا يأتي على نصيب الآخرة. وهذا احتراس في الموعظة خشية نفور الموعوظ من موعظة الواعظ لأنهم لما قالوا لقارون { وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة } أوهموا أن يترك حظوظ الدنيا فلا يستعمل ماله إلا في القربات، فأفيد أن له استعمال بعضه في ما هو متمحض لنعيم الدنيا إذا آتى حق الله في أمواله. فقيل: أرادوا أن لك أن تأخذ ما أحلّ الله لك.

والنصيب: الحظ والقسط، وهو فعيل من النصب لأن ما يعطى لأحد ينصب له ويميز، وإضافة النصيب إلى ضميره دالة على أنه حقه وأن للمرء الانتفاع بماله في ما يلائمه في الدنيا خاصة مما ليس من القربات ولم يكن حراماً. قال مالك: في رأيي معنى { ولا تنس نصيبك من الدنيا } تعيش وتأكل وتشرب غير مضيق عليك. وقال قتادة: نصيب الدنيا هو الحلال كلّه. وبذلك تكون هذه الآية مثالاً لاستعمال صيغة النهي لمعنى الإباحة. و { من } للتبعيض. والمراد بالدنيا نعيمها. فالمعنى: نصيبك الذي هو بعض نعيم الدنيا.

{ وَأَحْسِن كَمَآ أَحْسَنَ ٱللَّهُ إِلَيْكَ وَلاَ تَبْغِ ٱلْفَسَادَ فِى ٱلاَْرْضِ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُحِبُّ المُفسدين }.

الإحسان داخل في عموم ابتغاء الدار الآخرة ولكنه ذكر هنا ليبنى عليه الاحتجاج بقوله { كما أحسن الله إليك }.

والكاف للتشبيه، و (ما) مصدرية، أي كإحسان الله إليك، والمشبه هو الإحسان المأخوذ من { أحسن } أي إحساناً شبيهاً بإحسان الله إليك. ومعنى الشبه: أن يكون الشكر على كل نعمة من جنسها. وقد شاع بين النحاة تسمية هذه الكاف كاف التعليل، ومثلها قوله تعالى { واذكروه كما هداكم } [البقرة: 198]. والتحقيق أن التعليل حاصل من معنى التشبيه وليس معنى مستقلاً من معاني الكاف.

وحذف متعلق الإحسان لتعميم ما يُحسن إليه فيشمل نفسه وقومه ودوابه ومخلوقات الله الداخلة في دائرة التمكن من الإحسان إليها. وفي الحديث: "إن الله كتب الإحسان على كل شيء" فالإحسان في كل شيء بحسبه، والإحسان لكل شيء بما يناسبه حتى الأذى المأذون فيه فبقدره ويكون بحسن القول وطلاقة الوجه وحسن اللقاء.

وعطف { لا تبغ الفساد في الأرض } للتحذير من خلط الإحسان بالفساد فإن الفساد ضد الإحسان، فالأمر بالإحسان يقتضي النهي عن الفساد وإنما نص عليه لأنه لما تعددت موارد الإحسان والإساءة فقد يغيب عن الذهن أن الإساءة إلى شيء مع الإحسان إلى أشياء يعتبر غير إحسان.

والمراد بالأرض أرضهم التي هم حالّون بها، وإذ قد كانت جزءاً من الكرة الأرضية فالإفساد فيها إفساد مظروف في عموم الأرض. وقد تقدمت نظائره منها في قوله تعالى { وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها } في سورة [البقرة: 205].

وجملة { إن الله لا يحب المفسدين } علة للنهي عن الإفساد، لأن العمل الذي لا يحبه الله لا يجوز لعباده عمله، وقد كان { قارون } موحّداً على دين إسرائيل ولكنه كان شاكّاً في صدق مواعيد موسى وفي تشريعاته.