خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَأَنزَلَ ٱلَّذِينَ ظَاهَرُوهُم مِّنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ مِن صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ ٱلرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً
٢٦
وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضاً لَّمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ ٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً
٢٧
-الأحزاب

التحرير والتنوير

كان يهود قريظة قد أعانوا الأحزاب وحاصروا المدينة معهم وكان حُيَيّ بنُ أخطب من بني النضير منضماً إليهم وهو الذي حرّض أبا سفيان على غزو المدينة. فلما صرف الله الأحزاب أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يغزو قريظة وهم فريق من اليهود يعرفون ببني قريظة وكانت منازلهم وحُصونهم بالجَنوب الشرقي من المدينة تعرف قريتهم باسمهم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد عاد إلى المدينة من الخندق ظُهراً وكان بصدد أن يغتسل ويَستقر فلما جاءه الوحي بأن يغزو قريظة نادى في الناس أنْ لا يصليَنَّ أحدُكم العصر إلا في بني قريظة. وخرج الجيش الذي كان بالخندق معه فنزلوا على قرية قريظة واستعصم أهل القرية بحصونهم فحاصرهم المسلمون نحواً من عشرين ليلة، فلما جهدهم الحصار وخامرهم الرعب من أن يفتح المسلمون بلادهم فيستأصلوهم طمِعوا أن يطلبوا أن يسلموا بلادهم على أن يحكّم حكَم في صفة ذلك التسليم. ويقال لهذا النوع من المصالحة: النزول على حُكم حَكَم، فأرسلوا شَاس بن قيس إلى النبي صلى الله عليه وسلم يعرضون أن ينزلوا على مثل ما نزلت عليه بنو النضير من الجَلاء على أن لهم ما حَملَتْ الإبلُ إلا الحَلَقة، فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم قبول ذلك وبعد مداولات نزلوا على حكم سَعْد بن معاذ، فحكم سعد أن تقتل المقَاتِلة وتُسبَى النساء والذَّراري وأن تكون ديارهم للمهاجرين دون الأنصار فأمضى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما حكم به سعد كما هو مفصل في السيرة.

ومعنى { ظاهروهم } ناصروهم وأعانوهم، وتقدم في قوله تعالى: { ولم يظاهروا عليكم أحداً } في سورة براءة (4).

والإنزال: الإهباط، أي: من الحصون أو من المعتصمات كالجبال.

والصياصي: الحصون، وأصلها أنها جمع صِيصَيَة وهي القَرْن للثَّوْر ونحوه. قال عبد بني الحسحاس:

فأصبحت الثيرانُ غرقَى وأصبحتنساءُ تميم يلتقطن الصَّيَاصيا

أي: القرون لبيعها. كانوا يستعملون القرون في مناسِج الصوف ويتخذون أيضاً منها أوعية للكحل ونحوه، فلما كان القرن يدافع به الثوْر عن نفسه سمي المَعقل الذي يعتصم به الجيش صيصية والحصونُ صياصيَ.

والقذف: الإلقاء السريع، أي: جعل الله في قلوبهم الرعب بأمره التكويني فاستسلموا ونزلوا على حكم المسلمين. والفريق الذين قُتلوا هم الرجال وكانوا زهاء سبعمائة والفريق الذين أُسروا هم النساء والصبيان.

والخطاب من قوله { فريقاً تقتلون } إلى آخره... للمؤمنين تكملة للنعمة التي أنبأ عنها قوله: { يا أيها الذين ءامنوا اذكروا نِعمة الله عليكم إذْ جاءَتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحاً } [الأحزاب: 9] الآية، أي: فأهلكنا الجنود وردهم الله بغيظهن وسلطكم على أحلافهم وأنصارهم. وتقديم المفعول في { فريقاً تقتلون } للاهتمام بذكره لأن ذلك الفريق هم رجال القبيلة الذين بقتلهم يتم الاستيلاء على الأرض والأموال والأسرى، ولذلك لم يقدم مفعول { تأسرون } إذ لا داعي إلى تقديمه فهو على أصله.

وقوله { وأرضاً لم تطؤوها } أي: تنزلوا بها غزاةً وهي أرض أُخرى غير أرض قريظة وصفت بجملة { لم تَطَؤُوها } أي: لم تمشوا فيها. فقيل: إن الله بشرهم بأرض أخرى يرثونها من بعد. قال قتادة: كنا نحدث أنها مكة. وقال مقاتل وابن رومان: هي خيبر، وقيل: أرض فارس والروم. وعلى هذه التفاسير يتعين أن يكون فعل { أورثكم } مستعملاً في حقيقته ومجازه؛ فأما في حقيقته فبالنسبة إلى مفعوله وهو { أرضهم وديارهم وأموالهم }، وأما استعماله في مجازه فبالنسبة إلى تعديته إلى { أرضاً لم تطؤوها }، أي: أن يورثكم أرضاً أخرى لم تطؤوها، من باب: { { أتى أمر الله } [النحل: 1] أو يُؤوَّل فعل { أورثكم } بمعنى: قَدَّر أن يُوَرِّثكم. وأظهر هذه الأقوال أنها أرض خيبر فإن المسلمين فتحوها بعد غزوة قريظة بعام وشهر. ولعلّ المخاطبين بضمير { أورثكم } هم الذين فتحوا خيبر لم ينقص منهم أحد أو فقد منه القليل ولأن خيبر من أرض أهل الكتاب وهم ممن ظاهروا المشركين فيكون قصدُها من قوله { وأرضاً } مناسباً تمام المناسبة.

وفي التذييل بقوله { وكان الله على كل شيء قديراً } إيماء إلى البشارة بفتح عظيم يأتي من بعده.

وعندي: أن المراد بالأرض التي لم يَطؤوها أرض بني النضير وأن معنى { لم تطؤوها } لم تفتحوها عنوة، فإن الوطء يطلق على معنى الأخذ الشديد، قال الحارث بن وَعْلَة الذهلي:

وطَأَتَنا وَطْئاً على حَنَقوَطْءَ المقيَّد نابت الهَرْم

ومنه قوله تعالى: { { ولولا رجالٌ مؤمنون ونساءٌ مؤمناتٌ لم تعلموهم أن تطؤوهم } [الفتح: 25]، فإن أرض بني النضير كانت مما أفاء الله على رسوله من غير إيجاف.