خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَقَالُواْ رَبَّنَآ إِنَّآ أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَآءَنَا فَأَضَلُّونَا ٱلسَّبِيلاْ
٦٧
رَبَّنَآ آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ ٱلْعَذَابِ وَٱلْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً
٦٨
-الأحزاب

التحرير والتنوير

عطف على جملة { يقولون } [الأحزاب: 66] فهي حال. وجيء بها في صيغة الماضي لأن هذا القول كان متقدماً على قولهم: { يا ليتنا أطعنا الله } [الأحزاب: 66]، فذلك التمني نشأ لهم وقت أن مسّهم العذاب، وهذا التنصل والدعاء اعتذروا به حين مشاهدة العذاب وحشرهم مع رؤسائهم إلى جهنم، قال تعالى: { حتى إذا ادَّاركوا فيها جميعاً قالت أخراهم لأولاهم ربنا هؤلاء أضلونا فآتهم عذاباً ضعفاً من النار قال لكل ضعف ولكن لا تعلمون } [الأعراف: 38]. فدل على أن ذلك قبل أن يمسهم العذاب بل حين رُصفوا ونسقوا قبل أن يصبّ عليهم العذاب ويطلق إليهم حرّ النار.

والابتداء بالنداء ووصف الربوبية إظهار للتضرع والابتهال.

والسادة: جمع سَيِّد. قال أبو علي: وزنه فَعَلة، أي مثل كَمَلة لكن على غير قياس لأن صيغة فَعَلَة تطَّرد في جمع فاعل لا في جمع فَيْعِل، فقلبت الواو ألفاً لانفتاحها وانفتاح ما قبلها. وأما السادات فهو جمع الجمع بزيادة ألف وتاء بزنة جمع المؤنث السالم. والسادة: عظماء القوم والقبائل مثل الملوك.

وقرأ الجمهور { سادتنا }. وقرأ ابن عامر ويعقوب { ساداتِنا } بألف بعد الدال وبكسر التاء لأنه جمع بألف وتاء مزيدتين على بناء مفرده. وهو جمع الجمع الذي هو سادة.

والكبراء: جمع كبير وهو عظيم العشيرة، وهم دون السادة فإن كبيراً يطلق على رأس العائلة فيقول المرء لأبيه: كبيري، ولذلك قوبل قولهم: { { يا ليتنا أطعنا الله وأطعنا الرسولا } [الأحزاب: 66] بقولهم: { أطعنا سادتنا وكبراءنا }.

وجملة { إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا } خبر مستعمل في الشكايةوالتذمر، وهو تمهيد لطلب الانتصاف من سادتهم وكبرائهم. فالمقصود الإِفضاء إلى جملة { ربنا آتهم ضعفين من العذاب }. ومقصود من هذا الخبر أيضاً الاعتذار والتنصل من تَبِعة ضلالهم بأنهم مغرورون مخدوعون، وهذا الاعتذار مردود عليهم بما أنطقهم الله به من الحقيقة إذ قالوا: { إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا } فيتجه عليهم أن يقال لهم: لماذا أطعتموهم حتى يغروكم، وهذا شأن الدهماء أن يسوِّدوا عليهم من يُعجبون بأضغاث أحلامه، ويُغَرُّون بمعسول كلامه، ويسيرون على وقع أقدامه، حتى إذا اجتنوا ثمار أكمامه، وذاقوا مراراة طعمه وحرارة أُوامه، عادوا عليه باللائمة وهم الأحقاء بملامه.

وحرف التوكيد لمجرد الاهتمام لا لرد إنكار، وتقديم قولهم: { إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا } اهتمام بما فيه من تعليل لمضمون قولهم: { فأضلونا السبيلا } لأن كبراءهم ما تأتَّى لهم إضلالهم إلا بتسبب طاعتهم العمياء إياهم واشتغالهم بطاعتهم عن النظروالاستدلال فيما يدعونهم إليه من فساد ووخامة مغبّة. وبتسبب وضعهم أقوالَ سادتهم وكبرائهم موضع الترجيح على ما يدعوهم إليه الرسول صلى الله عليه وسلم.

وانتصب { السبيلا } على نزع الخافض لأن أضل لا يتعدّى بالهمزة إلا أن مفعول واحد قال تعالى: { لقد أضلني عن الذكر } [الفرقان: 29]. وظاهر "الكشاف" أنه يتعدّى إلى مفعولين، فيكون (ضل) المجرد يتعدى إلى مفعول واحد. تقول: ضللت الطريق، و(ضل) يتعدى بالهمزة إلى مفعولين. وقاله ابن عطية.

والقول في ألف { السبيلا } كالقول في ألف { { الرسولا } [الأحزاب: 66].

وإعادة النداء في قولهم: { ربنا آتهم ضعفين من العذاب } تأكيد للضراعة والابتهال وتمهيد لقبول سؤلهم حتى إذا قبل سؤلهم طمعوا في التخلص من العذاب الذي ألقوهُ على كاهل كبرائهم.

والضِعف بكسر الضاد: العدد المماثل للمعدود، فالأربعة ضعف الاثنين. ولما كان العذاب معنى من المعاني لا ذاتاً كان معنى تكرير العدد فيه مجازاً في القوة والشدة.

وتثنية { ضعفين } مستعملة في مطلق التكرير كناية عن شدة العذاب كقوله تعالى: { ثم ارجع البصر كرتين ينقلب إليك البصر خاسئاً وهو حسير } [الملك: 4] فإن البصر لا يخسَأ في نظرتين، ولذلك كان قوله هنا: { آتهم ضعفين من العذاب } مساوياً لقوله: { فآتهم عذاباً ضعفاً من النار } في سورة الأعراف [38]. وهذا تعريض بإلقاء تبعة الضلال عليهم، وأن العذاب الذي أعدّ لهم يسلط على أولئك الذين أضلّوهم.

ووُصف اللعن بالكثرة كما وصف العذاب بالضعفين إشارة إلى أن الكبراء استحقوا عذاباً لكفرهم وعذاباً لتسببهم في كفر أتباعهم.

فالمراد بالكثير الشديد القوي، فعبر عنه بالكثير لمشاكلة معنى التثنية في قوله: { ضعفين } المراد به الكثرة.

وقد ذكر في الأعراف جوابهم من قِبل الجلالة بقوله: { قال لكل ضعف } [الأعراف: 38] يعني أن الكبراء استحقوا مضاعفة العذاب لضلالهم وإضلالهم وأن أتباعهم أيضاً استحقوا مضاعفة العذاب لضلالهم ولتسويد سادتهم وطاعتهم العمياء إياهم.