خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلاَئِكَةِ أَهَـٰؤُلاَءِ إِيَّاكُمْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ
٤٠
قَالُواْ سُبْحَانَكَ أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِمْ بَلْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ ٱلْجِنَّ أَكْـثَرُهُم بِهِم مُّؤْمِنُونَ
٤١
-سبأ

التحرير والتنوير

عطف على جملة { { ولو ترى إذ الظالمون موقوفون عند ربهم } [سبأ: 31] الآية استكمالاً لتصوير فظاعة حالهم يوم الوعد الذي أنكروه تبعاً لما وصف من حال مراجعة المستكبرين منهم والمستضعفين؛ فوصف هنا افتضاحهم بتبرؤ الملائكة منهم وشهادتهم عليهم بأنهم يعبدون الجن.

وضمير الغيبة من { نحشرهم } عائد إلى ما عاد عليه ضمير { { وقالوا نحن أكثر أموالاً وأولاداً } [سبأ: 35] الذي هو عائد إلى { الذين كفروا } من قوله: { { وقال الذين كفروا لن نؤمن بهذا القرآن } [سبأ: 31]. والكلام كله منتظم في أحوال المشركين، وجميع: فعيل بمعنى مفعول، أي مجموع وكثر استعماله وصفاً لإِفادة شمول أفراد ما أجري هو عليه من ذوات وأحوال، أي يجمعهم المتكلم، قال لبيد:

عريت وكان بها الجميعُ فأبكروامنها وغودر نُؤيها وثُمامها

وتقدم عند قوله تعالى: { { فكيدوني جميعاً ثم لا تنظرون } في سورة هود (55). فلفظ { جميعاً } يعم أصناف المشركين على اختلاف نحلهم واعتقادهم في شركهم فقد كان مشركو العرب نِحَلا شتّى يأخذ بعضهم من بعض وما كانوا يحققون مذهباً منتظم العقائد والأقوال غير مخلوط بما ينافي بعضه بعضاً.

والمقصد من هذه الآية إبطال قولهم في الملائكة إنهم بنات الله، وقولهم: { { لو شاء الرحمن ما عبدناهم } كما في سورة الزخرف (20). وكانوا يخلطون بين الملائكة والجن ويجعلون بينهم نسباً، فكانوا يقولون: الملائكة بنات الله من سَروات الجن.

وقد كان حَيّ من خزاعة يقال لهم: بنو مُليح، بضم الميم وفتح اللام وسكون التحتية، يعبدون الجن والملائكة، والاقتصار على تقرير الملائكة واستشهادهم على المشركين لأن إبطال إلٰهية الملائكة يفيد إبطال إلٰهية ما هو دونها ممن أُعيد من دون الله بدلالة الفحوى، أي بطريق الأولى فإن ذلك التقرير من أهم ما جعل الحشر لأجله.

وتوجيه الخطاب إلى الملائكة بهذا الاستفهام مستعمل في التعريض بالمشركين على طريقة المَثل إياك أعنِي واسمَعِي يا جارة.

والإِشارة بـ{ هؤلاء } إلى فريق كانوا عبدوا الملائكة والجن ومن شايعهم على أقوالهم من بقية المشركين.

وتقديم المفعول على { يعبدون } للاهتمام والرعاية على الفاصلة.

وحكي قول الملائكة بدون عاطف لوقوعه في المحاورة كما تقدم غير مرة ولذلك جيء فيه بصيغة الماضي لأن ذلك هو الغالب في الحكاية.

وجواب الملائكة يتضمن إقراراً مع التنزه عن لفظ كونهم معبودين كما يتنزه من يَحكي كفر أحد فيقول قال: هُو مشرك بالله، وإنما القائل قال: أنا مشرك بالله.

فمورد التنزيه في قول الملائكة { سبحانك } هو أن يكون غير الله مستحقاً أن يعبد، مع لازم الفائدة وهو أنهم يعلمون ذلك فلا يضرون بأن يكونوا مَعبودين.

والولي: الناصر والحَليف والصديق، مشتق من الوَلْي مصدر وَلِيَ بوزن عَلِم. وكلٌّ من فاعل الوَلْي ومفعوله وليّ لأن الوَلاية نسبة تستدعي طرفين ولذلك كان الولي فعيلاً صالحاً لمعنى فاعل ولمعنى مفعول. فيقع اسم الولِيّ على المُوالِي بكسر اللام وعلى المُوالَى بفتحها وقد ورد بالمعنيين في القرآن وكلام العرب كثيراً.

فمعنى { أنت ولينا } لا نوالي غيرك، أي لا نرضى به وليّاً، والعبادةُ ولاية بين العابد والمعبود، ورضَى المعبود بعبادة عابده إياه ولايةٌ بين المعبود وعابده، فقول الملائكة { سبحانك } تبرؤ من الرضى بأن يعبدهم المشركون لأن الملائكة لما جعلوا أنفسهم موالين لله فقد كذبوا المشركين الذين زعموا لهم الإِلهية، لأن العابد لا يكون معبوداً. وقد تقدم الكلام على لفظ (ولي) عند قوله تعالى: { { قل أغير اللَّه أتخذ ولياً } في سورة الأنعام (14) وفي آخر سورة الرعد.

و{ مِن } زائدة للتوكيد و (دون) اسم لمعنى غير، أي أنت ولينا وهم ليسوا أولياء لنا ولا نرضى بهم لكفرهم فــــ{ من دونهم } تأكيد لما أفادته جملة { أنت ولينا } من الحَصر لتعريف الجزأين.

و{ بل } للإِضراب الانتقالي انتقالاً من التبرؤ منهم إلى الشهادة عليهم وعلى الذين سَوّلوا لهم عبادة غير الله تعالى، وليس إضراب إبطال لأن المشركين المتحدث عنهم كانوا يعبدون الملائكة، والمعنى: بل كان أكثر هؤلاء يعبدون الجن وكان الجنّ راضين بعبادتهم إياهم. وحاصل المعنى: أنا منكرون عبادتهم إياناً ولم نأمرهم بها ولكن الجن سوّلت لهم عبادة غير الله فعبدوا الجن وعبدوا الملائكة.

وجملة { أكثرهم } للمشركين وضمير { بهم } للجن، والمقام يردّ كل ضمير إلى معاده ولو تماثلت الضمائر كما في قول عباس بن مرداس يوم حنين:

عُدنا ولولا نحن أحدق جمعهمبالمسلمين وأحرزوا ما جَمَّعوا

أي أحرز جَمْع المشركين ما جَمَّعه المسلمون من مغانم.

وقرأ الجمهور { نحشرهم } و{ نقول } بنون العظمة. وقرأ حفص عن عاصم بياء الغائب فيهما، والضمير عائد إلى { ربي } من قوله: { { قل إن ربي يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر له } [سبأ: 39].