خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

تَنزِيلَ ٱلْعَزِيزِ ٱلرَّحِيمِ
٥
لِتُنذِرَ قَوْماً مَّآ أُنذِرَ آبَآؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ
٦
-يس

التحرير والتنوير

راجع إلى { { القرآن الحكيم } [يس: 2] إذ هو المنزل من عند الله، فبعد أن استوفى القسم جوابه رجع الكلام إلى بعض المقصود من القسم وهو تشريف المقسم به فوسم بأنه { تنزيل العزيز الرحيم }.

وقد قرأه الجمهور بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف للعلم به، وهذا من مواقع حذف المسند إليه الذي سماه السكاكي الحذف الجاري على متابعة الاستعمال في أمثاله. وذلك أنهم إذا أجروا حديثاً على شيء ثم أخبروا عنه التزموا حذف ضميره الذي هو مسند إليه إشارة إلى التنويه به كأنه لا يخفى كقول إبراهيم الصّولي، أو عبد الله بن الزَّبير الأَسدي أو محمد بن سعيد الكاتب، وهي من أبيات الحماسة في باب الأضياف:

سأشكر عَمْراً إن تراختْ منيتيأيَاديَ لم تمنن وإن هي جَلّتِ
فتىً غيرُ محجوب الغنى عن صديقهولاَ مظهرِ الشكوى إذ النعل زلَّتِ

تقديره: هو فتى.

وقرأه ابن عامر وحمزة والكسائي وحفص عن عاصم وخلف بنصب { تنزيل } على تقدير: أعني. والمعنى: أعني من قسمي قرآناً نَزَّلتُه، وتلك العناية زيادة في التنويه بشأنه وهي تعادل حذف المسند إليه الذي في قراءة الرفع.

والتنزيل: مصدر بمعنى المفعول أخبر عنه بالمصدر للمبالغة في تحقيق كونه منزلاً.

وأضيف التنزيل إلى الله بعنوان صفتي { العزيز الرحيم } لأن ما اشتمل عليه القرآن لا يعدُو أن يكون من آثار عزة الله تعالى، وهو ما فيه من حمل الناس على الحق وسلوك طريق الهدى دون مصانعة ولا ضعف مع ما فيه من الإِنذار والوعيد على العصيان والكفران.

وأن يكون من آثار رحمته وهو ما في القرآن من نَصْب الأدلة وتقريب البعيد وكشف الحقائق للناظرين، مع ما فيه من البشارة للذين يكونون عند مرضاة الله تعالى، وذلك هو ما ورد بيانه بعدُ إجمالاً من قوله: { لتنذر قوماً ما أنذر آباؤهم فهم غافلون } [يس: 6] ثم تفصيلاً بقوله: { { لقد حق القول على أكثرهم } [يس: 7] وبقوله: { { إنما تُنذر من اتَّبع الذكر وخَشِيَ الرحمٰن بالغيب فبشره بمغفرة وأجر كريم } [يس: 11].

فاللام في { لتنذر } متعلقة بــــ{ تنزيل } وهي لام التعليل تعليلاً لإِنزال القرآن.

واقتصر على الإِنذار لأن أول ما ابتدىء به القومُ من التبليغ إنذارهم جميعاً بما تضمنته أول سورة نزلت من قوله: { { كلا إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى } [العلق: 6، 7] الآية. وما تضمنته سورة المدثر لأن القوم جميعاً كانوا على حالة لا ترضي الله تعالى فكان حالهم يقتضي الإِنذار ليسرعوا إلى الإِقلاع عما هم فيه مرتبكون.

والقوم الموصوفون بأنهم لم تنذر آباؤهم: إما العرب العدنانيون فإنهم مضت قرون لم يأتهم فيها نذير، ومضى آباؤهم لم يسمعوا نذيراً، وإنما يُبتدأ عدُّ آبائهم من جدّهم الأعلى في عمود نسبهم الذين تميزوا به جذماً وهو عدنان، لأنه جذم العرب المستعربة، أو أريد أهل مكة. وإنما باشر النبي صلى الله عليه وسلم في ابتداء بعثته دعوة أهل مكة وما حولها فكانوا هم الذين أراد الله أن يتلقّوا الدين وأن تتأصل منهم جامعة الإِسلام ثم كانوا هم حملة الشريعة وأعوان الرسول صلى الله عليه وسلم في تبليغ دعوته وتأييده. فانضمّ إليهم أهل يثرب وهم قحطانيون فكانوا أنصاراً ثم تتابع إيمان قبائل العرب.

وفرع عليه قوله: { فهم غافلون } أي فتسبب على عدم إنذار آبائهم أنهم متصفون بالغفلة وصفاً ثابتاً، أي فهم غافلون عما تأتي به الرسل والشرائع فهم في جهالة وغواية إذ تراكمت الضلالات فيهم عاماً فعاماً وجيلاً فجيلاً.

فهذه الحالة تشمل جميع من دعاهم النبي صلى الله عليه وسلم سواء من آمن بعدُ ومن لم يؤمن.

والغفلة: صريحها الذهول عن شيء وعدم تذكره، وهي هنا كناية عن الإِهمال والإِعراض عما يحق التنبيه إليه كقول النابغة:

يقول أناس يجهلون خليقتيلعلّ زياداً لا أباك غافل