خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

لاَّ يَسَّمَّعُونَ إِلَىٰ ٱلْمَلإِ ٱلأَعْلَىٰ وَيُقْذَفُونَ مِن كُلِّ جَانِبٍ
٨
دُحُوراً وَلَهُمْ عَذابٌ وَاصِبٌ
٩
إِلاَّ مَنْ خَطِفَ ٱلْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ
١٠
-الصافات

التحرير والتنوير

اعتراض بين جملة { إنَّا زيَّنا السماء الدُّنيا } [الصافات:6] وجملة { فاستفتِهِم أهُم أشدُّ خلقاً } [الصافات:11] قصد منه وصف قصة طرد الشياطين.

وعلى تقدير قوله: { { وَحِفْظاً } [ الصافات:7] مصدراً نائباً مناب فعله يجوز جعل جملة { لاَ يَسمعُونَ }بياناً لكيفية الحفظ فتكون الجملة في موقع عطف البيان من جملة { وحِفْظَاً }على حد قوله تعالى: { فوسوس إليه الشيطان قال يا آدم هل أدلك } [طه:120] الآية، أي انتفى بذلك الحفظ سَمع الشياطين للملأ الأعلى.

وحرف { إلى } يشير إلى تضمين فعل { يَسَّمَّعُونَ } معنى ينتهون فيسمعون، أي لا يتركهم الرمي بالشهب منتهين إلى الملأ الأعلى انتهاء الطالب المكان المطلوب بل تدحرهم قبل وصولهم فلا يتلقفون من عِلم ما يجري في الملأ الأعلى الأشياء مخطوفة غير متبينة، وذلك أبعد لهم من أن يسمعوا لأنهم لا ينتهون فلا يسمعون. وفي «الكشاف»: أن سمعت المعدّى بنفسه يفيد الإِدراك، وسمعت المعدّى بــــ { إلى } يفيد الإصغاء مع الإدراك.

وقرأ الجمهور: { لاَ يَسْمَعُونَ } بسكون السين وتخفيف الميم. وقرأه حمزة والكسائي وحفص عن عاصم وخلف { لا يسَّمَّعون } بتشديد السين وتشديد الميم مفتوحتين على أن أصله: لا يَتسمعون فقلبت التاء سيناً توصلاً إلى الإِدغام، والتسمع: تطلب السمع وتكلفه، فالمراد التسمع المباشر، وهو الذي يتهيأ له إذا بلغ المكان الذي تصل إليه أصوات الملأ الأعلى، أي أنهم يدحرون قبل وصولهم المكان المطلوب، والقراءتان في معنى واحد. وما نقل عن أبي عبيد من التفرقة بينهما في المعنى والاستعمال لا يصح.

وحاصل معنى القراءتين أن الشهب تحول بين الشياطين وبين أن يسمعوا شيئاً من الملأ الأعلى وقد كانوا قبل البعثة المحمدية ربما اختطفوا الخطفة فألقوها إلى الكهان فلما بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم قدر زيادة حراسة السماء بإرداف الكواكب بعضها ببعض حتى لا يرجع من خطف الخطفة سالماً كما دلّ عليه قوله: { إلاَّ مَنْ خَطِفَ الخَطْفَةَ }، فالشهب كانت موجودة من قبل وكانت لا تحول بين الشياطين وبين تلقف أخبار مقطعة من الملأ الأعلى فلما بعث محمد صلى الله عليه وسلم حرمت الشياطين من ذلك.

و { الملأ }: الجماعة أهل الشأن والقدر. والمراد بهم هنا الملائكة. ووصف { المَلإِ } بــــ { الأَعْلَىٰ } لتشريف الموصوف.

والقذف: الرجم، والجانب: الجهة، والدُّحور: الطرد. وانتصب على أنه مفعول مطلق لــــ { يقذفون }. وإسناد فعل { يُقذفون } للمجهول لأن القاذف معلوم وهم الملائكة الموكّلون بالحفظ المشار إليه في قوله تعالى: { وإنا لمسنا السماء فوجدناها ملئت حرساً شديداً وشُهُباً } [الجن:8].

والعذاب الواصب: الدائم يقال: وصب يصب وصوباً، إذا دام. والمعنى: أنهم يطردون في الدنيا ويحقرون ولهم عذاب دائم في الآخرة فإن الشياطين للنار { فوربك لنحشرنهم والشياطين ثم لنحضرنهم حول جهنم جثياً } في سورة [مريم: 68]، ويجوز أن يكون المراد عذاب القذف وأنه واصب، أي لا ينفكّ عنهم كلما حاولوا الاستراق لأنهم مجبولون على محاولته.

وجملة { ولهم عذابٌ واصِبٌ } معترضة بين الجملة المشتملة على المستثنى منه وهي جملة { لا يسمعون إلى الملإ الأعلى } وبين الاستثناء.

و { من خطف الخطفة } مستثنى من ضمير { لا يسمعونَ } فهو في محل رفع على البدلية منه.

والخطف: ابتدار تناول شيء بسرعة، و { الخطفة } المرة منه. فهو مفعول مطلق لــــ { خَطِفَ } لبيان عدد مرات المصدر، أي خطفة واحدة، وهو هنا مستعار للإِسراع بسمع ما يستطيعون سمعه من كلام غير تام كقوله تعالى: { يكاد البرق يخطف أبصارهم } في سورة [البقرة:20].

وأتبعه بمعنى تبعه فهمزته لا تفيده تعدية، وهي كهمزة أبان بمعنى بان.

والشهاب: القبس والجمر من النار. والمراد به هنا ما يُسمّى بالنيزك في اصطلاح علم الهيئة، وتقدم في قوله: { فأتبعه شهاب مبين } في سورة [الحجر: 18].

والثاقب: الخارق، أي الذي يترك ثَقباً في الجسم الذي يصيبه، أي ثاقب له. وعن ابن عباس: الشهاب لا يقتل الشيطان الذي يصيبه ولكنه يحترق ويَخْبِل، أي يفسُد قِوامه فتزول خصائصه، فإن لم يضمحل فإنه يصبح غير قادر على محاولة اسْتراق السمع مرة أخرى، أي إلا من تمكّن من الدنوّ إلى محل يسمع فيه كلمات من كلمات الملأ الأعلى فيُردف بشهاب يثقبه فلا يرجع إلى حيث صدر، وهذا من خصائص ما بعد البعثة المحمدية.

وقد تقدم الكلام على استراق السمع عند قوله تعالى: { وما تنزلت به الشياطين وما ينبغي لهم } في سورة [الشعراء:210، 211].