خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَإِنَّ مِن شِيعَتِهِ لإِبْرَاهِيمَ
٨٣
إِذْ جَآءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ
٨٤
إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ
٨٥
أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ ٱللَّهِ تُرِيدُونَ
٨٦
فَمَا ظَنُّكُم بِرَبِّ ٱلْعَالَمِينَ
٨٧
-الصافات

التحرير والتنوير

تخلص إلى حكاية موقف إبراهيم عليه السلام من قومه في دعوتهم إلى التوحيد وما لاقاه منهم وكيف أيده الله ونجّاه منهم، وقع هذا التخلص إليه بوصفه من شيعة نوح ليفيد بهذا الأسلوب الواحِد تأكيد الثناء على نوح وابتداءَ الثناء على إبراهيم وتخليد منقبة لنوح إن كان إبراهيم الرسول العظيم من شيعته وناهيك به. وكذلك جَمع محامد لإِبراهيم في كلمة كونه من شيعة نوح المقتضي مشاركته له في صفاته كما سيأتي، وهذا كقوله تعالى: { ذرية من حملنا مع نوح } [الإسراء:3].

والشيعة: اسم لمن يناصر الرجل وأتباعِه ويتعصب له فيقع لفظ شيعة على الواحد والجمع. وقد يجمع على شِيع وأشياع إذا أريد: جماعات كلُّ جماعة هي شيعة لأحد.

وقد تقدم عند قوله تعالى: { ولقد أرسلنا من قبلك في شِيَع الأولين } في سورة [الحجر: 10]، وعند قوله تعالى: { وجعل أهلها شيعاً } في سورة [القصص: 4].

وكان إبراهيم من ذرية نوح وكان دينه موافقاً لدين نوح في أصله وهو نبذ الشرك.

وجعل إبراهيم من شيعة نوح لأن نوحاً قد جاءت رسل على دينه قبل إبراهيم منهم هود وصالح فقد كانا قبل إبراهيم لأن القرآن ذكرهما غير مرة عقب ذكر نوح وقبل ذكر لوط معاصر إبراهيم. ولقول هود لقومه: { واذكروا إذ جعلكم خلفاءَ من بعد قوم نوح } [الأعراف:69]، ولقول صالح لقومه: { واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد عاد } [الأعراف:74]، وقول شعيب لقومه: { ويا قوم لا يجرمنكم شقاقي أن يصيبكم مثل ما أصاب قوم نوح أو قوم هود أو قوم صالح وما قوم لوط منكم ببعيد } [هود:89]. فجعل قوم لوط أقرب زمناً لقومه دون قوم هود وقوم صالح. وكان لوط معاصر إبراهيم فهؤلاء كلهم شيعة لنوح وإبراهيم من تلك الشيعة وهذه نعمة حادية عشرة.

وتوكيد الخبر بـــ { إنّ } ولام الابتداء للردّ على المشركين لأنهم يزعمون أنهم على ملة إبراهيم وهذا كقوله تعالى: { وما كان من المشركين } [البقرة: 135].

و { إذ } ظرف للماضي وهو متعلق بالكون المقدَّر للجار والمجرور الواقعين خبراً عن { إنَّ } في قوله: { وإنَّ من شيعته لإبرٰهِيم }، أو متعلق بلفظ شيعة لما فيه من معنى المشايعة والمتابعة، أي كان من شيعته حين جاء ربه بقلب سليم كما جاء نوح، فذلك وقتُ كونه من شيعته، أي لأن نوحاً جاء ربه بقلب سليم. وفي { إذْ } معنى التعليل لكونه من شيعته فإن معنى التعليل كثير العروض لــــ{ إذْ } كقوله تعالى: { ولن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم أنكم في العذاب مشتركون } [الزخرف:39]. وهذه نعمة على نوح وهي ثانية عشرة.

والباء في { بِقَلبٍ سليمٍ } للمصاحبة، أي جاء معه قلب صفته السلامة فيؤول إلى معنى: إذ جاء ربه بسلامة قلب، وإنما ذكر القلب ابتداء ثم وصف بــــ { سليمٍ } لما في ذكر القلب من إحضار حقيقة ذلك القلب النزيه، ولذلك أوثر تنكير «قلب» دون تعريف. و { سَلِيمٍ }: صفة مشبهة مشتقة من السلامة وهي الخلاص من العلل والأدواء لأنه لما ذكر القلب ظهر أن السلامة سلامته مما تصاب به القلوب من أدوائها فلا جائز أن تعني الأدواء الجسدية لأنهم ما كانوا يريدون بالقلب إلا مقرّ الإِدراك والأخلاق. فتعين أن المراد: صاحب القلب مع نفسه بمثل طاعة الهوى والعجب والغرور، ومع الناس بمثل الكبر والحقد والحسد والرياء والاستخفاف.

وأطلق المجيء على معاملته به في نفسه بما يرضي ربه على وجه التمثيل بحال من يجيء أحداً ملقياً إليه مَا طلبه من سلاح أو تحف أو ألطاف فإن الله أمره بتزكِية نفسه فامتثل فأشبه حال من دعاه فجاءه. وهذا نظير قوله تعالى: { أجيبوا داعي الله } [الأحقاف:31].

وقد جمع قوله: { بِقَلْبٍ سليمٍ } جوامع كمال النفس وهي مصدر محامد الأعمال. وفي الحديث: "ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب" .

وقد حكي عن إبراهيم قوله: { يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم } [الشعراء: 88 - 89]، فكان عماد ملة إبراهيم هو المتفرّع عن قوله: { بقلب سليم }، وذلك جُماع مكارم الأخلاق ولذلك وصف إبراهيم بقوله تعالى: { إن إبراهيم لحليم أواه منيب } [هود: 75]، فكان منزهاً عن كل خلق ذميم واعتقاد باطل.

ثم إن مكارم الأخلاق قابلة للازدياد فكان حظ إبراهيم منها حظاً كاملاً لعله أكمل من حظ نوح بناء على أن إبراهيم أفضل الرسل بعد محمد صلى الله عليه وسلم وادخر الله منتهى كمالها لِرسوله محمد صلى الله عليه وسلم فلذلك قال: "إنما بعثت لأُتمم مكارم الأخلاق" ، ولذلك أيضاً وصفت ملة إبراهيم بالحنيفية ووصف الإِسلام بزيادة ذلك في قول النبي صلى الله عليه وسلم "بُعِثت بالحنيفية السمحة" . وتعليق كونه من شيعة نوح بهذا الحِين المضاف إلى تلك الحالة كناية عن وصف نوح بسلامة القلب أيضاً يحصل من قوله: { وإنَّ من شيعتِه لإبرٰهِيم } إثبات مثل صفات نوح لإِبراهيم ومن قوله: { إذ جَاءَ ربَّهُ بقلْبٍ سليمٍ } إثبات صفة مثل صفة إبراهيم لنوح على طريق الكناية في الإثباتين، إلا أن ذلك أثبت لإِبراهيم بالصريح ويثبت لنوح باللزوم فيكون أضعف فيه من إبراهيم.

و { إذ قال لأبيهِ } بدل من { من جاء ربه بقلب سليم } بدلَ اشتمال فإن قوله هذا لما نشأ عن امتلاء قلبه بالتوحيد والغضب لله على المشركين كان كالشيء المشتمل عليه قلبه السليم فصدر عنه.

و { ماذا تعبدون } استفهام إنكاري على أن يعبدوا ما يعبدونه ولذلك أتبعه باستفهام آخر إنكاري وهو { أئِفكاً ءَالهَةً دونَ الله تريدون }. وهذا الذي اقتضى الإِتيان باسم الإِشارة بعد «ما» الاستفهامية الذي هو مُشرَب معنى الموصول المشار إليه، فاقتضى أن ما يعبدونه مشاهد لإِبراهيم فانصرف الاستفهام بذلك إلى معنىً دون الحقيقي وهو معنى الإِنكار، بخلاف قوله: { إذْ قالَ لأبيهِ وقومهِ ما تعبدون } في سورة [الشعراء: 70] فإنه استفهام على معبوداتهم ولذلك أجابوا عنه { قالوا نعبد أصناماً فنظل لها عاكفين } [الشعراء: 71] وإنما أراد بالاستفهام هنالك التمهيد إلى المحاجّة فصوره في صورة الاستفهام لسماع جوابهم فينتقلَ إلى إبطاله، كما هو ظاهر من ترتيب حجاجه هنالك، فذلك حكاية لقول إبراهيم في ابتداء دعوته قومه، وأما ما هنا فحكاية لبعض أقواله في إعادة الدعوة وتأكيدها.

وجملة { أئِفكاً ءَالهة دون الله تريدون } بيان لجملة { ماذا تعبدون } بين به مصبّ الإِنكار في قوله: { ماذا تعبدون } وإيضاحَه، أي كيف تريدون آلهة إفكاً.

وإرادة الشيء: ابتغاؤه والعزم على حصوله، وحَقّ فعلها أن يتعدى إلى المعاني قال ابن الدمينة:

تريدين قَتلي قد ظَفِرتتِ بذلك

فإذا عُدي إلى الذوات كان على معنى يتعلق بتلك الذوات كقول عمرو بن شاس الأسدي:

أرادتْ عِراراً بالهوان ومن يُرِدعِراراً لعمري بالهوان فقد ظَلَم

فلذلك كانت تعدية فعل { تُريدونَ } إلى { ءَالهة } على معنى: تريدونها بالعبادة أو بالتأليه، فكان معنى { ءَالهة }دليلاً على جانب إرادتها.

فانتصب { ءَالهةً } على المفعول به وقدم المفعول على الفعل للاهتمام به ولأن فيه دليلاً على جهة تجاوز معنى الفعل للمفعول.

وانتصب { إفكاً } على الحال من ضمير { تُريدونَ } أي آفكين. والإِفك: الكذب. ويجوز أن يكون حالاً من آلهة، أي آلهة مكذوبة، أي مكذوب تأليهها. والوصف بالمصدر صالح لاعتبار معنى الفاعل أو معنى المفعول. وقدمت الحال على صاحبها للاهتمام بالتعجيل بالتعبير عن كذبهم وضلالهم.

وقوله: { دُونَ الله } أي خلاف الله وغيره، وهذا صالح لاعتبار قومه عبدة أوثان غير معترفين بإلٰه غير أصنامهم، ولاعتبارهم مشركين مع الله آلهة أخرى مثل المشركين من العرب لأن العرب بقيت فيهم أثارة من الحنيفية فلم ينسوا وصف الله بالإِلٰهية وكان قوم إبراهيم وهم الكلدان يعبدون الكواكب نظير ما كان عَليه اليونان والقبط.

وفرع على استفهام الإِنكار استفهام آخر وهو قوله: { فما ظنكم برب العالمين } وهو استفهام أريد به الإِنكار والتوقيف على الخطأ، وأريد بالظن الاعتقاد الخطأ.

وسمي ظناً لأنه غير مطابق للواقع ولم يسمه علماً لأن العلم لا يطلق إلا على الاعتقاد المطابق للواقع ولذلك عرفوه بأنه: «صفة توجِب تمييزاً لا يحتمل النقيض» ولا ينتفي احتمال النقيض إلا متى كان موافقاً للواقع. وكثر إطلاق الظن على التصديق المخطىء والجهل المركب كما في قوله تعالى: { إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون } في سورة [الأنعام: 116]. وقوله: { إن الظن لا يغني من الحق شيئاً } [يونس:36].

وقول النبي صلى الله عليه وسلم "إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث" .

والمعنى: أن اعتقادكم في جانب رب العالمين جهل منكَر.

وفعل الظن إذا عدّي بالباء أشعر غالباً بظن غير صادق قال تعالى: { وتظنون بالله الظنونا } [الأحزاب:10] وقال: { وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم } [فصلت:23]. ومنه إطلاق الظنين على المتهم فإن أصله: ظنين بِه، فحذفت الباء ووصل الوصف، وذلك أنه إذا عدي بالباء فالأكثر حذف مفعوله وكانت الباء للإِلصاق المجازي، أي ظن ظناً ملصقاً بالله، أي مدّعى تعلقه بالله وإنما يناسب ذلك ما ليس لائقاً بالله. وتقدمت الإِشارة إليه عند قوله تعالى: { وتظنون بالله الظنونا } في سورة [الأحزاب: 10].

والمعنى: فما ظنكم السيّىء بالله، ولما كان الظن من أفعال القلب فتعديته إلى اسم الذات دون إتباع الاسم بوصف متعينة لتقدير وصف مناسب. وقد حذف المتعلق هنا لقصد التوسع في تقدير المحذوف بكل احتمال مناسب تكثيراً للمعاني فيجوز أن تعتبر من ذاتِ ربّ العالمين أوصافُه. ويجوز أن يعتبر منها الكنهُ والحقيقة، فاعتبار الوصف على وجهين:

أحدهما: المعنى المشتق منه الرب وهو الربوبية وهي تبليغ الشيء إلى كماله تدريجاً ورفقاً فإن المخلوق محتاج إلى البقاء والإِمداد وذلك يوجب أن يَشكر المُمَدّ فلا يصد عن عبادة ربه، فيكون التقدير: فما ظنكم أن له شركاء وهو المنفرد باستحقاق الشكر المُتَمثل في العبادة لأنه الذي أمدكم بإنعامه.

وثانيهما: أن يعتبر فيه معنى المالكية وهي أحد معنيي الربّ وهو مستلزم لمعنى القهر والقدرة على المملوك، فيكون التقدير: فما ظنكم ماذا يفعل بكم من عقاب على كفرانه وهو مالِككم ومالك العالمين.

وأما جواز اعتبار حقيقة رب العالمين وكنهه. فالتقدير فيه: فما ظنكم بكنهِ الربوبية فإنكم جاهلون الصفات التي تقتضيها وفي مقدمتها الوحدانية.