خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَٱضْرِب بِّهِ وَلاَ تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً نِّعْمَ ٱلْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ
٤٤

التحرير والتنوير

{ وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَٱضْرِب بِّهِ وَلاَ تَحْنَثْ } مقول لقول محذوف دلّت عليه صيغة الكلام، والتقدير: وقلنا خذ بيدك ضغثاً فاضرب به ولا تحنث، وهو قول غيرُ القول المحذوف في قوله: { اركض برجلك } [ص: 42] لأن ذلك استجابة دعوة وهذا إفتاء برخصة، وذلك له قصته، وهذا له قصة أخرى أشارت إليها الآية إجمالاً ولم يرد في تعيينها أثر صحيح ومجملها أن زوج أيوب حاولت عملاً ففسد عليه صبره من استعانة ببعض الناس على مواساته فلما علم بذلك غضب وأقسم ليضربنّها عدداً من الضرب ثم ندم وكان محبّاً لها، وكانت لائذة به في مدة مرضه فلما سُرِّي عنه أشفق على امرأته من ذلك ولم يكن في دينهم كفارة اليمين فأوحى الله إليه أن يضربها بحُزمة فيها عددٌ من الأعواد بعدد الضربات التي أقسم عليها رفقاً بزوجه لأجله وحفظاً ليمينه من حنثه إذ لا يليق الحنث بمقام النبوءة. وليست هذه القضية ذات أثر في الغرض الذي سيقت لأجله قصة أيوب من الأسوة وإنما ذكرت هنا تكملة لمظهر لطف الله بأيوب جزاء على صبره.

ومعاني الآية ظاهرة في أن هذا الترخيص رفق بأيوب، وأنه لم يكن مثله معلوماً في الدّين الذي يدين به أيوبُ إبقاء على تقواه، وإكراماً له لحبه زوجه، ورفقاً بزوجه لبرّها به، فهو رخصة لا محالة في حكم الحنث في اليمين.

فجاء علماؤنا ونظروا في الأصل المقرر في المسألة المفروضة في أصول الفقه وهي: أن شرع من قبلنا هل هو شرع لنا إذا حكاه القرآن أو السنة الصحيحة، ولم يكن في شرعنا ما ينسخه من نص أو أصل من أصول الشريعة الإسلامية. فأما الذين لم يروا أن شرع من قبلنا شرع لنا وهم أبو بكر الباقلاني من المالكية وجمهورُ الشافعية وجميعُ الظاهرية فشأنهم في هذا ظاهر، وأما الذين أثبتوا أصل الاقتداء بشرع مَن قبلنا بقيوده المذكورة وهم مالك وأبو حنيفة والشافعي فتخطَّوا للبحث في أن هذا الحكم الذي في هذه الآية هل يقرر مثلُه في فقه الإِسلام في الإِفتاء في الأيمان وهل يتعدى به إلى جعله أصلاً للقياس في كل ضَرب يتعين في الشرع له عدد إذا قام في المضروب عذر يقتضي الترخيص بعد البناء على إثبات القياس على الرخص، وهل يتعدّى به إلى جعله أصلاً للقياس أيضاً لإِثبات أصل مماثل وهو التحيّل بوجه شرعي للتخلص من واجب تكليفٍ شرعي، واقتحموا ذلك على ما في حكاية قصة أيوب من إجمال لا يتبصر به الناظر في صفة يمينه ولا لفظه ولا نيته إذ ليس من مقصد القصة.

فأما في الأيمان فقد كفانا الله التكلّف بأن شرع لنا كفارات الأيمان. وقال النبي صلى الله عليه وسلم "إني والله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيراً منها إلا كفرت عن يميني فعلت الذي هو خير" ، فصار ما في شرعنا ناسخاً لما شرع لأيوب فلا حاجة إلى الخوض فيها، ومذهب الحنفية العمل بذلك استناداً لكونه شرعاً لمن قبلنا وهو قول الشافعي.

وقال مالك: هذه خاصة بأيوب أفتى الله بها نبيئاً. وحكى القرطبي عن الشافعي أنه خصه بما إذا حلف ولم تكن له نية كأنه أخرجه مُخرج أقل ما يصدق عليه لفظ الضرب والعدد. وأما القياس على فتوى أيوب في كلّ ضرب معيّن بعدد في غير اليمين، أي في باب الحدود والتعزيرات فهو تطوح في القياس لاختلاف الجنس بين الأصل والفرع، ولاختلاف مقصد الشريعة من الكفارات ومقصدها من الحدود والتعزيرات، ولترتب المفسدة على إهمال الحدود والتعزيرات دون الكفارات. ولا شك أن مثل هذا التسامح في الحدود يفضي إلى إهمالها ومصيرها عبثاً. وما وقع في «سنن أبي داود» من حديث أبي أمامة عن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأنصار «أنّ رجلاً منهم كان مريضاً مضنى فدخلت عليه جارية فهشّ لها فوقع عليها فاستفتوا له رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: لو حملناه إليك لتفسخت عظامه ما هو إلا جلد على عظْم فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأخذوا له مائة شمراخ فيضربوه بها ضربةً واحدة. ورواه غير أبي داود بأسانيد مختلفة وعبارات مختلفة. وما هي إلا قصة واحدة فلا حجة فيه لأنه تطرقته احتمالات.

أولها: أن ذلك الرجل كان مريضاً مضنى ولا يُقام الحد على مثله.

الثاني: لعلّ المرض قد أخل بعقله إخلالاً أقدمه على الزنا فكان المرض شبهة تدْرأ الحدَّ عنه.

الثالث: أنه خبر آحاد لا ينقض به التواتر المعنوي الثابتُ في إقامة الحدود.

الرابع: حمله على الخصوصية. ومذهب الشافعي أنه يعمل بذلك في الحد للضرورة كالمرض وهو غريب لأن أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم وأقوال السلف متضَافرة على أن المريض والحامل يُنتظران في إقامة الحد عليهما حتى يبرآ، ولم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن تضرب الحامل بشماريخ، فماذا يفيد هذا الضرب الذي لا يزجر مُجرماً، ولا يدفع مأثماً، وفي «أحكام الجصّاص» عن أبي حنيفة مثل ما للشافعي. وحكى الخطابي أن أبا حنيفة ومالكاً اتفقا على أنه لا حدّ إلا الحد المعروف. فقد اختلف النقل عن أبي حنيفة.

{ إِنَّا وَجَدْنَـٰهُ صَابِراً نِّعْمَ ٱلْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّاب }.

علة لجملة { { اركض برجلِكَ } [ص: 42] وجملة { ووهبنا له أهلهُ } [ص: 43]، أي أنعمنا عليه بجبر حاله، لأنا وجدناه صابراً على ما أصابه فهو قدوة للمأمور بقوله: { واصبر على ما يقولون } [المزمل: 10] صلى الله عليه وسلم فكانت (إِنَّ) مغنية عن فاء التفريع.

ومعنى { وجدناهُ } أنه ظهر في صبره ما كان في علم الله منه.

وقوله: { نِعم العبد إنَّهُ أوَّابٌ } مثل قوله في سليمان { نِعم العبد إنَّه أوَّابٌ } [ص: 30]، فكان سليمان أوَّاباً لله من فتنة الغنى والنعيم، وأيوب أوَّاباً لله من فتنة الضرّ والاحتياج، وكان الثناء عليهما متماثلاً لاستوائهما في الأوبة وإن اختلفت الدواعي. قال سفيان: أثنى الله على عبدين ابتليا: أحدهما صابر، والآخر شاكر، ثناءً واحداً. فقال لأَيوب ولسليمان { نِعْمَ العبد إنَّه أوَّابٌ }.