خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَٱنطَلَقَ ٱلْمَلأُ مِنْهُمْ أَنِ ٱمْشُواْ وَاْصْبِرُواْ عَلَىٰ آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَـٰذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ
٦
مَا سَمِعْنَا بِهَـٰذَا فِى ٱلْمِلَّةِ ٱلآخِرَةِ إِنْ هَـٰذَا إِلاَّ ٱخْتِلاَقٌ
٧

التحرير والتنوير

الانطلاق حقيقته: الانصراف والمشي، ويستعمل استعمال أفعال الشروع لأن الشارع ينطلق إليه، ونظيره في ذلك: ذَهب بفعل كذا، كما في قول النبهاني:

فإن كنتَ سيِّدنَا سدْتَناوإن كنت للخال فاذْهب فَخلْ

وكذلك قام في قوله تعالى: { إذ قاموا فقالوا } في سورة [الكهف: 14].

وقيل: إن الانطلاق هنا على حقيقته، أي وانصرف الملأ منهم عن مجلس أبي طالب. و { الملأ }: سادة القوم قال ابن عطية: قائل ذلك عقبة بن أبي معيط. وقال غير ابن عطية: إن من القائلين أبا جهل، والعاصي بن وائل، والأسود بن عبد يغوث.

و { أن } تفسيرية لأن الانطلاق إن كان مجازاً فهو في الشروع فقد أريد به الشروع في الكلام فكان فيه معنى القول دون حروفه فاحتاج إلى تفسيرٍ بكلام مقول، وإن كان الانطلاقُ على حقيقته فقد تضمن انطلاقهم عقب التقاول بينهم بكلامهم الباطل { هٰذَا ساحِرٌ } [ص:4] إلى قوله: { عُجَابٌ } [ص:5] يقتضي أنهم انطلقوا متحاورين في ماذا يصنعون. ولما أسند الانطلاق إلى الملأ منهم على أنهم ما كانوا لينطلقوا إلا لتدبير في ماذا يصنعون فكان ذلك مقتضياً تحاوراً وتقاولاً احتيج إلى تفسيره بجملة { أن امشوا واصبروا على ءَالهتِكُم } الخ. والأمر بالمشي يحتمل أن يكون حقيقة، أي انصرفوا عن هذا المكان مكان المجادلة، واشتغلوا بالثبات على آلهتكم. ويجوز أن يكون مجازاً في الاستمرار على دينهم كما يقال: كما سار الكرام، أي اعمل كما عملوا، ومنه سميت الأخلاق والأعمال المعتادة سيرة.

والصبر: الثبات والملازمة، يقال: صبر الدابة إذا ربطها، ومنه سمي الثبات عند حلول الضُرّ صبراً لأنه ملازمة للحلم والأناة بحيث لا يضطرب بالجزع، ونظير هذه الآية قوله تعالى: { إن كاد ليضلنا عن آلهتنا لولا أن صبرنا عليها } [الفرقان: 42].

وحرف { على } يدلّ على تضمين { اصبروا } معنى: اعكفوا وأثبتوا، فحرف { على } هنا للاستعلاء المجازي وهو التمكن مثل { أولئك على هدى من ربهم } [البقرة: 5]. وليس هو حرف { على } المتعارف تعدية فعل الصبر به في نحو قوله: { اصبر على ما يقولون } [المزمل: 10] فإن ذلك بمعنى (مع)، ولذلك يخلفه اللام في مثل ذلك الموقع نحو قوله تعالى: { فاصبر لحكم ربك } [القلم: 48]، ولا بدّ هنا من تقدير مضاف، أي على عبادة آلهتكم، فلا يتعدى إلى مفعول إن كان مجازاً فهو في الشروع فقد أريد به الشروع في الكلام فكان.

وجملة { إن هٰذَا لشيءٌ يُرادُ } تعليل للأمر بالصبر على آلهتهم لقصد تقوية شكهم في صحة دعوة النبي صلى الله عليه وسلم بأنها شيء أرادهُ لغرض أي ليس صادقاً ولكنه مصنوع مراد منه مقصد كما يقال: هذا أمر دُبِّر بليل، فالإِشارة بــــ { هٰذَا } إلى ما كانوا يسمعونه في المجلس من دعوة النبي صلى الله عليه وسلم إياهم أن يقولوا: لا إلٰه إلا الله.

وقوله: { ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة } من كلام المَلأ. والإِشارة إلى ما أشير إليه بقولهم: { إن هٰذا لشيء يراد }، أي هذا القول وهو { { أجعَلَ الآلهة إلٰهاً واحداً } [ص:5].

والجملة مستأنفة أو مبينة لجملة { إنَّ هٰذَا لشيءٌ يُرادُ } لأن عدم سماع مثله يبين أنه شيء مصطنع مبتدع. وإعادة اسم الإِشارة من وضع الظاهر موضع المضمر لقصد زيادة تمييزه. وفي قوله: { بهٰذَا } تقدير مضاف، أي بمثل هذا الذي يقوله. ونفي السماع هنا خبر مستعمل كناية عن الاستبعاد والاتّهام بالكذب.

و { الملة }: الدين، قال تعالى: { ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم } في سورة [البقرة:120]، وقال: { إني تركت ملة قوم لا يؤمنون باللَّه وهم بالآخرة هم كافرون واتبعت ملة آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب } في سورة [يوسف: 37 - 38].

و { الآخِرة }: تأنيث الآخِر وهو الذي يكون بعد مضي مدة تقررت فيها أمثاله كقوله تعالى: { ثم اللَّه ينشىء النشأة الآخرة } [العنكبوت: 20].

والمجرور من قوله: { في الملة الآخرةِ } يجوز أن يكون ظرفاً مستقراً في موضع الحال من اسم الإِشارة بياناً للمقصود من الإِشارة متعلقاً بفعل { سَمِعْنَا }. والمعنى: ما سمعنا بهذا قبل اليوم فلا نعتدّ به. ويجوز على هذا التقدير أن يكون المراد بــــ { الملَّةِ الآخرة } دين النصارى، وهو عن ابن عباس وأصحابه وعليه فالمشركون استشهدوا على بطلان توحيد الإِلٰه بأن دين النصارى الذي ظهر قبل الإِسلام أثبتَ تعدد الآلهة، ويكون نفي السماع كناية عن سماع ضده وهو تعدد الآلهة. ويجوز أن يريدوا بــــ { الملَّةِ الآخِرة } الملّة التي هُم عليها ويكون إشارة إلى قول ملأ قريش لأبي طالب في حين احْتضاره حين قال له النبي صلى الله عليه وسلم "يا عَم قُلْ لا إلٰه إلاّ الله كلمةً أُحاجُّ لك بها عند الله. فقالوا له جميعاً: أترغب عن ملة عبد المطلب" . فقولهم: { في الملة الآخِرَةِ } كناية عن استمرار انتفاء هذا إلى الزمن الأخير فيعلم أن انتفاءه في ملتهم الأولى بالأحرى.

وجملة { إن هٰذَا إلاَّ اختلاقٌ } مبينة لجملة { ما سمعنا بهٰذَا } وهذا هو المتحصل من كلامهم المبدوء بــــ { امشوا واصبروا على ءَالهتِكُم } فهذه الجملة كالفذلكة لكلامهم.

والاختلاق: الكذب المخترع الذي لا شبهة لقائله.