أُطنبتْ آيات الوعيد بأفنانها السابقة إطناباً يبلغ من نفوس سامعيها أيَّ مبلغ من الرعب والخوف، على رغْمِ تظاهرهم بقلة الاهتمام بها. وقد يبلغ بهم وقعها مبلغَ اليأس من سَعيٍ ينجيهم من وعيدها، فأعقبها الله ببعث الرجاء في نفوسهم للخروج إلى ساحل النجاة إذا أرادوها على عادة هذا الكتاب المجيد من مداواة النفوس بمزيج الترغيب والترهيب.
والكلام استئناف بياني لأن الزواجر السابقة تثير في نفوس المواجَهين بها خاطر التساؤل عن مسالك النجاة فتتلاحم فيها الخواطر الملَكية والخواطر الشيطانية إلى أن يُرسي التلاحم على انتصار إحدى الطائفتين، فكان في إنارة السبيل لها ما يسهل خطو الحائرين في ظلمات الشك ويرتفق بها ويواسيها بعد أن أثخنتها جروح التوبيخ والزجر والوعيد ويضمد تلك الجراحة، والحليمُ يزجُر ويلين، وتثير في نفس النبي صلى الله عليه وسلم خشيةَ أن يحيط غضب الله بالذين دعاهم إليه فأعرضوا، أو حببهم في الحق فأبغضوا، فلعله لا يَفتح لهم باب التوبة، ولا تقبل منهم بعد إعراضهم أوْبَة، ولاسيما بعد أن أمره بتفويض الأمر إلى حكمه، المشتَمِّ منه ترقبُ قطع الجدال وفصمِه، فكان أمره لرسوله صلى الله عليه وسلم، بأن يناديهم بهذه الدعوة تنفيساً عليه، وتفتيحاً لباب الأوْبة إليه، فهذا كلام ينحل إلى استئنافين فجملة { قُل } استئناف لبيان ما ترقَّبَه أفضلُ النبيئين صلى الله عليه وسلم أي بلغ عني هذا القول.
وجملةُ { يٰعِبَادي } استئناف ابتدائي من خطاب الله لهم. وابتداء الخطاب بالنداء وعنوانِ العباد مؤذن بأن ما بعده إعداد للقبول وإطماع في النجاة.
والخطاب بعنوان { يٰعِبَادي } مراد به المشركون ابتداءً بدليل قوله:
{ وأسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب } [الزمر: 54] وقوله: { وإن كنت لمن السٰخرين } [الزمر: 56] وقوله: { بلى قد جاءتك آياتي فكذبت بها واستكبرت وكنت من الكافرين } [الزمر: 59]. فهذا الخطاب جرى على غير الغالب في مثله في عادة القرآن عند ذكر { عبادي } بالإِضافة إلى ضمير المتكلم تعالى.وفي «صحيح البخاري» عن ابن عباس «أن ناساً من أهل الشرك كانوا قد قَتلوا وأَكثروا، وزنَوا وأكثروا، فأتوا محمداً صلى الله عليه وسلم فقالوا: إن الذي تقول وتدعو إليه لحسن لو تخبرُنا أَن لما عملنا كفارة (يعني وقد سمعوا آيات الوعيد لمن يعمل تلك الأعمال وإلا فمن أين علموا أن تلك الأعمال جرائم وهم في جاهلية) فنزل:
{ والذين لا يدعون مع الله إلاهاً آخر ولا يقتلون النفس التي حرم اللَّه إلا بالحق ولا يزنون } [الفرقان: 68] يعني إلى قوله: { إلا من تاب وآمن وعمل عملاً صالحاً } [الفرقان: 70] ونزل: { قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة اللَّه }.وقد رويت أحاديث عدة في سبب نزول هذه الآية غير حديث البخاري وهي بين ضعيف ومجهول ويستخلص من مجموعها أنها جزئيات لعموم الآية وأن الآية عامة لخطاب جميع المشركين وقد أشرنا إليها في ديباجة تفسير السورة. ومن أجمل الأخبار المروية فيها ما رواه ابن إسحاق عن نافع عن ابن عمر عن عمر قال: «لما اجتمعنا على الهجرة اتَّعدتُ أنا وهشامُ بن العاص السهمي، وعيّاش بن أبي ربيعة ابن عتبة. فقلنا: الموعد أَضَاةُ بني غِفَار، وقلنا: من تأخّرَ منّا فقد حُبس فليمضِ صاحباه. فأصبحتُ أنا وعياش بن عتبة وحُبس عنا هشام وإذا هو قد فُتِن فافتَتَنَ فكنا نقول بالمدينة: هؤلاء قد عَرفوا الله ثم افتتنوا لبلاء لحقهم لا نرى لهم توبة. وكانوا هم يقولون هذا في أنفسهم، فأنزل الله: { قل يٰعبادي الذين أسرفوا } إلى قوله:
{ مَثْوى للمتكبرين } [الزمر: 60] قال عمر فكتبتها بيدي ثم بعثتها إلى هشام. قال هشام: فلما قدمتْ عليَّ خرجتُ بها إلى ذي طوَى فقلت: اللهم فهِّمنيها فعرفت أنها نزلت فينا فرجعتُ فجلست على بعيري فلحقت برسول الله صلى الله عليه وسلم ا هــ. فقول عمر: فأنزل الله يريد أنه سمعه بعد أن هاجر وأنه مما نزل بمكة فلم يسمعه عمر إذ كان في شاغل تهيئة الهجرة فما سمعها إلا وهو بالمدينة فإن عمر هاجر إلى المدينة قبل النبي صلى الله عليه وسلم.فالخطاب بقوله: { يٰعبادي الذين أسرفوا على أنفسهم } تمهيد بإجمال يأتي بيانه في الآيات بعده من قوله:
{ وأنيبوا إلى ربكم } [الزمر: 54]. وبعد هذا فعموم { عبادي } وعموم صلة { الذين أسرفوا } يشمل أهل المعاصي من المسلمين وإن كان المقصود الأصلي من الخطاب المشركين على عادة الكلام البليغ من كثرة المقاصد والمعاني التي تفرغ في قوالب تسعُها.وقرأ الجمهور { يٰعبادي الذين أسرفوا } بفتح ياء المتكلم، وقرأه أبو عمرو وحمزة والكسائي ويعقوب بإسكان الياء. ولعل وجه ثبوت الياء في هذه الآية دون نظيرها وهو قوله تعالى:
{ قل يا عبادي الذين آمنوا اتقوا ربكم } [الزمر: 10]، أن الخطاب هنا للذين أسرفوا وفي مقدمتهم المشركون وكلهم مظنة تطرق اليأس من رحمة الله إلى نفوسهم، فكان إثبات (يا) المتكلم في خطابهم زيادة تصريح بعلامة التكلُّم تقوية لنسبة عبوديتهم إلى الله تعالى إيماء إلى أن شأن الرب الرحمة بعباده.والإِسراف: الإِكثار. والمراد به هنا الإِسراف في الذنوب والمعاصي، وتقدم ذكر الإِسراف في قوله تعالى:
{ ولا تأكلوها إسرافاً } في سورة [النساء: 6] وقوله: { فلا يسرف في القتل } في سورة [الإسراء: 33]. والأكثر أن يعدّى إلى متعلِّقه بحرف { مِن }، وتعديتُه هنا بــــ (على) لأن الإِكثار هنا من أعمالٍ تتحملها النفس وتثقل بها وذلك متعارف في التبِعات والعدوان تقول: أكثرت على فلان، فمعنى { أسرفوا على أنفسهم }: أنهم جلبوا لأنفسهم ما تثقلهم تبعته ليشمل ما اقترفوه من شرك وسيئات.والقنوط: اليأس، وتقدم في قوله:
{ فلا تكن من القانطين } في سورة [الحِجر: 55].وجملة { إن الله يغفر الذنوب جميعاً } تعليل للنهي عن اليأس من رحمة الله.
ومادة الغفر ترجع إلى الستر، وهو يقتضي وجود المستور واحتياجَه للستر فدل { يغْفِرُ الذُّنوب } على أن الذنوب ثابتة، أي المؤاخذة بها ثابتة والله يغفرها، أي يزيل المؤاخذة بها، وهذه المغفرة تقتضي أسباباً أُجملت هنا وفصلت في دلائل أخرى من الكتاب والسنة منها قوله تعالى:
{ وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحاً ثم اهتدى } [طه: 82]، وتلك الدلائل يجمعها أن للغفران أسباباً تطرأ على المذنب ولولا ذلك لكانت المؤاخذة بالذنوب عبثاً ينزه عنه الحكيم تعالى، كيف وقد سماها ذنوباً وتوعد عليها فكان قوله: { إن الله يغفر الذنوب } دعوةً إلى تطلب أسباب هذه المغفرة فإذا طلبها المذنب عرف تفصيلها. و { جميعاً } حال من { الذنوب }، أي حال جميعها، أي عمومها، فيغفر كل ذنب منها إن حصلت من المذنب أسباب ذلك. وسيأتي الكلام على كلمة (جميع) عند قوله تعالى: { والأرض جميعاً قبضته } في هذه السورة [67]. وجملة { إنه هو الغفور الرحيم } تعليل لجملة { يغفر الذنوب جميعاً } أي لا يُعجزه أن يغفر جميع الذنوب ما بلغ جميعها من الكثرة لأنه شديد الغفران شديد الرحمة. فبطل بهذه الآية قول المرجئة إنه لا يضر مع الإِيمان شيء.