خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَيٰقَوْمِ مَا لِيۤ أَدْعُوكُـمْ إِلَى ٱلنَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِيۤ إِلَى ٱلنَّارِ
٤١
تَدْعُونَنِي لأَكْـفُرَ بِٱللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَاْ أَدْعُوكُمْ إِلَى ٱلْعَزِيزِ ٱلْغَفَّارِ
٤٢
لاَ جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِيۤ إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي ٱلدُّنْيَا وَلاَ فِي ٱلآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَآ إِلَى ٱللَّهِ وَأَنَّ ٱلْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ ٱلنَّارِ
٤٣
-غافر

التحرير والتنوير

أعاد نداءهم وعطفت حكايته بواو العطف للإشارة إلى أن نداءه اشتمل على ما يقتضي في لغتهم أن الكلام قد تخطى من غرض إلى غرض وأنه سَيَطْرَق ما يغاير أول كلامه مغايرة مَّا تُشبه مغايرة المتعاطفين في لغة العرب، وأنه سيرتقي باستدراجهم في دَرَج الاستدلال إلى المقصود بعد المقدمات، فانتقل هنا إلى أن أنكر عليهم شيئاً جرى منهم نحوه وهو أنهم أعقبوا موعظتَهُ إياهم بدعوته للإقلاع عن ذلك وأن يتمسك بدينهم وهذا شيء مطوي في خلال القصة دلت عليه حكاية إنكاره عليهم، وهو كلامُ آيسٍ من استجابتهم لقوله فيه: { فَسَتَذكُرُونَ مَا أقولُ لَكُم } [غافر: 44]، ومُتَوقِّعٍ أذاهم لقوله: { وَأُفَوِّضُ أمْرِي إلَى الله } [غافر: 44]، ولقوله تعالى آخر القصة: { فوقاه الله سيئات ما مكروا } [غافر: 45]. فصرّح هنا وبينّ بأنه لم يزل يدعوهم إلى اتباع ما جاء به موسى وفي اتّباعه النجاة من عذاب الآخرة فهو يدعوهم إلى النجاة حقيقة، وليس إطلاق النجاة على ما يدعوهم إليه بمجاز مرسل بل يدعوهم إلى حقيقة النجاة بوسائط.

والاستفهام في { مَا لِي أدْعُوكم إلى النَّجوٰةِ } استفهام تعجبي باعتبار تقييده بجملة الحال وهي { وتَدْعُونَنِي إلَى النَّارِ } فجملة { وتَدْعُونَنِي إلَى النَّارِ } في موضع الحال بتقدير مبتدأ، أي وأنتم تدعونني إلى النار وليست بعطف لأن أصل استعمال: ما لي أفعل، وما لي لا أفعل ونحوه، أن يكون استفهاماً عن فعل أو حالٍ ثبت للمجرور باللام (وهي لام الاختصاص)، ومعنى لام الاختصاص يَكسب مدخولها حالةً خَفيًّا سببُها الذي عُلق بمدخول اللام نحو قوله تعالى: { ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل اللَّه اثّاقلتم إلى الأرض } [التوبة: 38] { ما لي لا أرى الهدهد } [النمل: 20] وقولك لمن يستوقفك: ما لك؟ فتكون الجملة التي بعد اسم الاستفهام وخبره جملة فعلية.

وتركيب: ما لي ونحوه، هو كتركيب: هل لك ونحوه في قوله تعالى: { فقل هل لك إلى أن تزكى } [النازعات: 18] وقول كعب بن زهير:

ألا بلغا عني بُجيرا رسالةفهل لك فيما قلتَ ويحْك هلْ لَكَ

فإذا قامت القرينة على انتفاء إرادة الاستفهام الحقيقي انصرف ذلك إلى التعجب من الحالة، أو إلى الإِنكار أو نحو ذلك. فالمعنى هنا على التعجب يعني أنه يعجب من دعوتهم إياه لدينهم مع ما رأوا من حرصه على نصحهم ودعوتهم إلى النجاة وما أتاهم به من الدلائل على صحة دعوته وبطلان دعوتهم.

وجملة { تَدْعُونَنِي لأكْفُرَ بالله } بيان لجملة { وتدعونني إلى النار } لأن الدعوة إلى النار أمر مجمل مستغرب فبينه ببيان أنهم يدعونه إلى التلبس بالأسباب الموجبة عذاب النار. والمعنى: تدعونني للكفر بالله وإشراك ما لا أعلم مع الله في الإِلهية.

ومعنى { مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ } ما ليس لي بصحته أو بوجوده علم، والكلام كناية عن كونه يعلم أنها ليست آلهة بطريق الكناية بنفي اللازم عن نفي الملزوم.

وعطف عليه { وأنا أدعوكم إلى العزيز الغفَّار } فكان بياناً لمجمل جملة { أدْعُوكُمْ إلَى النَّجوٰةِ }. وإبراز ضمير المتكلم في قوله: { وأنا أدعوكم } لإِفادة تقوِّي الخبر بتقديم المسند إليه على خبره الفعلي.

وفعل الدعوة إذا ربط بمتعلق غير مفعوله يعدّى تارة باللام وهو الأكثر في الكلام، ويعدى بحرف (إلى) وهو الأكثر في القرآن لما يشتمل عليه من الاعتبارات ولذلك علق به معموله في هذه الآية أربع مرات بــــ(إلى) ومرة باللام مع ما في ربط فعل الدعوة بمتعلقه الذي هو من المعنويات من مناسبة لام التعليل مثل { تدعونني لأكْفُرَ بالله وأُشْرِكَ بِهِ }، وربطِه بما هو ذات بحرف (إلى) في قوله: { أدْعُوكم إلى النَّجوٰة } فإن النجاة هي نجاة من النار فهي نجاة من أمر محسوس، وقوله: { وتدعونني إلى النَّار } وقوله: { وأنا أدعوكم إلى العزيز الغفار لا جرم أنما تدعونني إليه ليس له دعوة في الدنيا } الخ، لأن حرف (إلى) دالّ على الانتهاء لأن الذي يدعو أحداً إلى شيء إنما يدعوه إلى أن ينتهي إليه، فالدعاء إلى الله الدعاء إلى توحيده بالربوبية فشبه بشيء محسوس تشبيه المعقول بالمحسوس، وشبه اعتقادُه صحتَه بالوصول إلى الشيء المسعي إليه، وشبهت الدعوة إليه بالدلالة على الشيء المرغوب الوصول إليه فكانت في حرف (إلى) استعارة مكنية وتخييلية وتبعية، وفي { العَزِيزِ الغَفٰرِ } استعارة مكنية، وفي { أدعوكم } استعارة تبعية وتخييلية.

وعدل عن اسم الجلالة إلى الصفتين { العَزِيزِ الغَفٰر } لإِدماج الاستدلال على استحقاقه الإِفراد بالإِلهية والعبادة، بوصفه { العزيز } لأنه لا تناله الناس بخلاف أصنامهم فإنها ذليلة توضع على الأرض ويلتصق بها القتام وتلوثها الطيور بذرقها، ولإِدماج ترغيبهم في الإقلاع عن الشرك بأن الموحد بالإِلهية يغفر لهم ما سلف من شركهم به حتى لا ييأسوا من عفوه بعد أن أساءوا إليه.

وجملة { لا جَرَمَ أنما تَدْعُونني } بيان لجملة { تَدْعُونني لأكْفُرَ بِالله }. وكلمة { لا جَرَم } بفتحتين في الأفصح من لغاتٍ ثلاث فيها، كلمة يراد بها معنى لا يثبت أو لا بد، فمعنى ثبوته لأن الشيء الذي لا ينقطع هو باق وكل ذلك يؤول إلى معنى حق وقد يقولون: لا ذا جرم، ولا أنَّ ذا جرم، ولا عَنَّ ذا جرم، ولاَ جَرَ بدون ميم ترخيماً للتخفيف.

والأظهر أن { جَرم } اسم لا فعل لأنه لو كان فعلاً لكان ماضياً بحسب صيغته فيكون دخول لا عليه من خصائص استعمال الفعل في الدعاء.

والأكثر أن يقع بعدها (أنَّ) المفتوحة المشددة فيقدر معها حرف (في) ملتزماً حذفه غالباً. والتقدير: لا شك في أن ما تدعونني إليه ليس له دعوة. وتقدم بيان معنى لا جَرم وأن جرم فعل أو اسم عند قوله تعالى: { لا جرم أنهم في الآخرة هم الأخسرون } في سورة [هود: 22].

وَمَا صَدَق { ما } الأصنام، وأعيد الضمير عليها مفرداً في قوله: { لَيْسَ لَهُ } مراعاة لإِفراد لفظ (ما).

وقوله: { لاَ جَرم أنَّما تدعونني إليه } إلى قوله: { أصْحٰبُ النَّار } واقع موقع التعليل لجملتي { ما لي أدعوكم إلى النجوٰة وتدعونني إلى النار } لأنه إذا تحقق أن لا دعوة للأصنام في الدنيا بدليل المشاهدة، ولا في الآخرة بدلالة الفحوى، فقد تحقق أنها لا تنجي أتباعها في الدنيا ولا يفيدهم دعاؤها ولا نداؤها. وتحقق إذن أن المرجو للإِنعام في الدنيا والآخرة هو الربّ الذي يدعوهم هو إليه. وهذا دليل إقناعي غير قاطع للمنازع في إلهية رب هذا المؤمن ولكنه أراد إقناعهم واستحفظهم دليلَه لأنهم سيظهر لهم قريباً أن رب موسى له دعوة في الدنيا ثقة منه بأنهم سيرون انتصار موسى على فرعون ويرون صرف فرعون عن قتل موسى بعد عزمه عليه فيعلمون أن الذي دعا إليه موسى هو المتصرف في الدنيا فيعلمون أنهُ المتصرف في الآخرة.

ومعنى { لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ } انتفاء أن يكون الدعاء إليه بالعبادة أو الالتجاء نافعاً لا نفي وقوع الدعوة لأن وقوعها مشاهَد. فهذا من باب «لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب» وقولهم: ليس ذلك بشيء، أي بشيء نافع، وبهذا تعلم أن { دعوة } مصدر متحمل معنَى ضمير فاعل، أي ليست دعوةُ داع، وأنّ ضمير { له } عائد إلى (ما) الموصولة، أي لا يملك دعوة الداعين، أي لا يملك إجابتهم.

وعطفت على هذه الجملة جملة { وأنَّ مردَّنَا إلى الله } عطفَ اللازم على ملزومه لأنه إذا تبين أن رب موسى المسمى (الله) هو الذي له الدعوة، تبين أن المرد أي المصير إلى الله في الدنيا بالالتجاء والاستنصار وفي الآخرة بالحكم والجزاء. ولو عطف مضمون هذه الجملة بالفاء المفيدة للتفريع لكانت حقيقة بها، ولكن عُدل عن ذلك إلى عطفها بالواو اهتماماً بشأنها لتكون مستقلة الدلالة بنفسها غيرَ باحثٍ سامعُها على ما ترتبط به، لأن الشيء المتفرع على شيء يعتبر تابعاً له، كما قال الأصوليون في أنّ جوابَ السائل غيرَ المستقل بنفسِه تَابع لعُموم السُّؤال.

وكذلك جملة { وأنَّ المُسْرِفِينَ هُمْ أصْحٰبُ النَّارِ } بالنسبة إلى تفرع مضمونها على مضمون جملة { وأنَّ مَرَدَّنا إلى الله } لأنه إذا كان المصير إليه كان الحكم والجزاء بين الصائرين إليه من مُثاب ومعاقب فيتعين أن المعاقَب هم الكافرون بالله.

فالإِسراف هنا: إفراط الكفر، ويشمل ما قيل: إنه أريد هنا سفك الدم بغير حق ليصرف فرعون عن قتل موسى عليه السلام. والوجه أن يعم أصحاب الجرائم والآثام. والتعريف فيه تعريف الجنس المفيد للاستغراق وهو تعريض بالذين يُخاطبهم إذْ هُم مسرفون على كل تقدير فهم مسرفون في إفراط كفرهم بالرب الذي دعا إليه موسى، ومسرفون فيما يستتبعه ذلك من المعاصي والجرائم فضمير الفصل في قوله: { هُمْ أصْحٰبُ النَّارِ } يفيد قصراً ادعائياً لأنهم المتناهون في صحبة النار بسبب الخلود بخلاف عصاة المؤمنين، وهذا لِحَمل كلام المؤمن على موافقة الواقع لأن المظنون به أنه نبي أو مُلْهَم وإلاّ فإن المقام مقام تمييز حال المؤمنين من حال المشركين، وليس مقام تفصيل درجات الجزاء في الآخرة.