خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَآ إِلَى ٱللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ ٱلْمُسْلِمِينَ
٣٣
-فصلت

التحرير والتنوير

ليس هذا من حكاية خطاب الملائكة للمؤمنين في الآخرة وإنما هو موجه من الله فالأظهر أنه تكملة للثناء على { { الذين قالوا: ربنا الله } [فصلت: 30]، واستقاموا، وتوجيه لاستحقاقهم تلك المعاملة الشريفة، وقمع للمشركين إذ تقرع أسماعَهم، أي كيف لا يكونون بتلك المثابة وقد قالوا أحسن القول وعملوا أحسن العمل. وذكر هذا الثناء عليهم بحسن قولهم عقب ذكر مذمة المشركين ووعيدُهم على سوء قولهم: { { لا تسمعوا لهذا القرآن } [فصلت: 26]، مشعر لا محالة بأن بين الفريقين بوناً بعيداً، طَرَفَاه: الأحسنُ المصرحُ به، والأسوأُ المفهوم بالمقابلة، أي فلا يستوي الذين قالوا أحسنَ القول وعملوا أصلح العمل مع الذين قالوا أسوأ القول وعملوا أسوأَ العمل، ولهذا عقب بقوله: { { وَلا تَسْتَوي الحَسَنة ولاَ السَّيِئَة } [فصلت: 34].

والواو إما عاطفة على جملة { { إنَّ الذين قالوا ربُّنا الله } [فصلت: 30]، أو حاليَّة من { الذينَ قالُوا }. والمعنى: أنهم نالوا ذلك إذْ لا أحسن منهم قولاً وعملاً. و{ مَنْ } استفهام مستعمل في النفي، أي لا أحد أحسن قولاً من هذا الفريق كقوله: { { ومن أحسن ديناً ممن أسلم وجهه للَّه } الآية في سورة النساء (125).

و{ ممن دعا إلى اللَّه }: كل أحد ثبت له مضمون هذه الصلة. والدعاء إلى شيء: أمر غيرك بالإقبال على شيء، ومنه قولهم: الدعوة العباسية والدعوة العَلوية، وتسمية الواعظ عند بني عبيد بالداعي لأنه يدعو إلى التشيُّع لآل علي بن أبي طالب. فالدعاء إلى الله: تمثيل لحال الآمِرِ بإفراد الله بالعبادة ونبذ الشرك بحال من يدعو أحداً بالإِقبال إلى شخص، وهذا حال المؤمنين حين أعلنوا التوحيد وهو ما وُصفوا به آنفاً في قوله: { { إنَّ الَّذِين قالوا ربُّنا } [فصلت: 30] كما علمتَ وقد كان المؤمنون يدعون المشركين إلى توحيد الله، وسيّدُ الداعين إلى الله هو محمد صلى الله عليه وسلم. وقوله: { مِمَّن دعا إلى الله } (مِنْ) فيه تفضيلية لاسْم { أَحْسَنُ }، والكلام على حذف مضاف تقديره: من قول من دعا إلى الله. وهذا الحذف كالذي في قول النابغة:

وقد خِفت حتى ما تَزيد مخافتيعلى وَعِلٍ في ذي المَطارة عاقل

أي لا تزيد مخافتي على مخافة وعل، ومنه قوله تعالى: { { ولكن البر من آمن باللَّه } الآية في سورة البقرة (177).

والعمل الصالح: هو العمل الذي يصلُح عامِلُه في دينه ودنياه صلاحاً لا يشوبه فساد، وذلك العمل الجاري على وفق ما جاء به الدين، فالعمل الصالح: هو ما وصف به المؤمنون آنفاً في قوله: { { ثمَّ استَقٰمُوا } [فصلت: 30].

وأما { وَقَالَ إنَّني مِنَ المُسْلِمِينَ } فهو ثناء على المسلمين بأنهم افتخروا بالإسلام واعتزوا به بين المشركين ولم يتستروا بالإسلام.

والاعتزاز بالدين عمل صالح ولكنه خص بالذكر لأنه أريد به غيظ الكافرين. ومثال هذا ما وقع يوم أحد حين صَاح أبو سفيان: اعْلُ هُبَلْ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم قولوا: "الله أعلى وأجلّ" فقال أبو سفيان: لنا العُزى ولا عُزى لكم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم "قولوا الله مولانا ولا مولى لكم" . وإنما لم يذكر نظير هذا القول في الصلة المشيرة إلى سبب تنزّل الملائكة على المؤمنين بالكرامة وهي { { الذِينَ قَالُوا رَبُّنا الله ثُمَّ استَقٰمُوا } [فصلت: 30] لأن المقصود من ذكرها هنا الثناء عليهم بتفاخرهم على المشركين بعزة الإِسلام، وذلك من آثار تلك الصلة فلا حاجة إلى ذكره هنالك بخلاف موقعه هنا.

وفي هذه الآية منزع عظيم لفضيلة علماء الدين الذين بينوا السنن ووضحوا أحكام الشريعة واجتهدوا في التوصل إلى مراد الله تعالى من دينه ومن خَلْقه. وفيها أيضاً منزع لطيف لتأييد قول الماتريدي وطائفة من علماء القيروان وعلى رأسهم مُحمد بن سُحنون: أن المسلم يقول: أَنا مؤمن ولا يقول إن شاء الله خلافاً لقول الأشعري وطائفة من علماء القيروان وعلى رأسهم محمد بن عَبدوس فنُقل أنه كان يقول: أنا مؤمن إن شاء الله. وقد تطاير شرر هذا الخلاف بين علماء القيروان مدة قرن. والحق إنه خلاف لفظي كما بينه الشيخ أبو محمد بن أبي زيد ونقله عياض في «المدارك» ووافقه. وذكرنا المسألة مفصلة عند قوله تعالى: { { وما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء اللَّه ربنا } في سورة الأعراف (89) وبذلك فلا حجة في هذه الآية لأحد الفريقين وإنما الحجة في آية سورة الأعراف على الماتريدي ومحمد بن سحنون. والقول في قوله: { وقَالَ إنَّني مِنَ المُسْلِمين } كالقول في { { إنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنا الله } [فصلت: 30].