خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَمِنْ آيَاتِهِ ٱلْجَوَارِ فِي ٱلْبَحْرِ كَٱلأَعْلاَمِ
٣٢
إِن يَشَأْ يُسْكِنِ ٱلرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَىٰ ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ
٣٣
أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَن كَثِيرٍ
٣٤
وَيَعْلَمَ ٱلَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِيۤ آيَاتِنَا مَا لَهُمْ مِّن مَّحِيصٍ
٣٥
-الشورى

التحرير والتنوير

لما جرى تذكيرهم بأنّ ما أصابهم من مصيبة هو مسبب عن اقتراف أعمالهم، وتذكيرهم بحلول المصائب تارة وكشفها تارة أخرى بقوله: { { ويعفوا عن كثير } [الشورى: 30]، وأعقب بأنهم في الحالتين غير خارجين عن قبضة القدرة الإلـٰهية سيق لهم ذكر هذه الآية جامعة مثالاً لإصابة المصائب وظهور مخائلها المخيفة المذكّرة بما يغفلون عنه من قدرة الله والتي قد تأتي بما أُنذروا به وقد تنكشف عن غير ضر، ودليلاً على عظيم قدرة الله تعالى وأنه لا محيص عن إصابة ما أراده، وإدماجاً للتذكير بنعمة السير في البحر وتسخير البحر للناس فإن ذلك نعمة، قال تعالى: { { والفُلْكِ التي تجري في البحر بما يَنْفَعُ الناس } في سورة البقرة (164)، فكانت هذه الجملة اعتراضاً مثل جملة { { ومن آياته خلق السماوات والأرض } [الشورى: 29].

والآيات: الأدلة الدالة على الحق.

والجواري: جمع جارية صفة لمحذوف دل عليه ذكر البحر، أي السفن الجواري في البحر كقوله تعالى في سورة الحاقة (11) { { إنّا لَمَّا طَغَى الماء حملناكم في الجارية } }. وعُدل عن: الفلك إلى { الجواري } إيماء إلى محل العبرة لأن العبرة في تسخير البحر لجريها وتفكير الإنسان في صنعها.

والأعلام: جمع عَلَم وهو الجبل، والمراد: بالجواري السفن العظيمة التي تسع ناساً كثيرين، والعبرة بها أظهر والنعمة بها أكثر.

وكتبت كلمة { الجوار } في المصحف بدون ياء بعد الراء ولها نظائر كثيرة في القرآن في الرسم والقراءة، وللقراء في أمثالها اختلاف وهي التي تُدعى عند علماء القراءات بالياءات الزوائد.

وقرأ نافع وأبو عمرو وأبو جعفر { الجواري } في هذه السورة بإثبات الياء في حالة الوصل وبحذفها في حالة الوقف. وقرأ ابن كثير ويعقوب بإثبات الياء في الحالين. وقرأ الباقون بحذفها في الحالين.

وإسكان الرياح: قطع هبوبها، فإن الريح حركة وتموّج في الهواء فإذا سكن ذلك التموّج فلا ريح.

وقرأ نافع { الريَاح } بلفظ الجمع. وقرأه الباقون { الريح } بلفظ المفرد. وفي قراءة الجمهور ما يدل على أن الريح قد تطلق بصيغة الإفراد على ريح الخير، وما قيل: إن الرياح للخير والريح للعذاب في القرآن هو غالب لا مطّرد. وقد قرىء في آيات أخرى الرياح والريح في سياق الخير دون العذاب.

وقرأ الجمهور { يشأ } بهمزة ساكنة. وقرأه ورش عن نافع من طريق الأصفهاني بألف على أنه تخفيف للهمزة.

والرواكد: جمع راكدة، والركود: الاستقرار والثبوت.

والظهْر: الصلب للإنسان والحيوان، ويطلق على أعلى الشيء إطلاقاً شائعاً. يقال: ظَهْر البيت، أي سطحه، وتقدم في قوله تعالى: { { وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها } [البقرة: 189]. وأصله: استعارة فشاعت حتى قاربت الحقيقة، فظَهْر البحر سطح مائه البادي للناظر، كما أطلق ظهْر الأرض على ما يبدو منها، قال تعالى: { { ما تَرك على ظهرها من دابّة } [فاطر: 45].

وجُعل ذلك آيةً لكل صبّار شكور لأن في الحالتين خوفاً ونجاة، والخوف يدعو إلى الصبر، والنجاةُ تدعو إلى الشكر. والمراد: أن في ذلك آيات لكل مؤمن متخلق بخلُق الصبر على الضرّاء والشكرِ للسرّاء، فهو يعتبر بأحوال الفُلْك في البحر اعتباراً يقارنه الصبر أو الشكر.

وإنما جعل ذلك آية للمؤمنين لأنهم الذين ينتفعون بتلك الآية فيعلمون أن الله منفرد بالإلـٰهية بخلاف المشركين فإنها تمر بأعينهم فلا يعتبرون بها.

وقوله: { أو يوبقهن } عطف على جزاء الشرط.

و{ يوبقهن }: يهلكهن. والإيباق: الإهلاك، وفعله وَبَق كوَعد. والمراد به هنا الغرق، فيجوز أن يكون ضمير جماعة الإناثِ عائداً إلى { الجواري } على أن يستعار الإيباق للإغراق لأنّ الإغراقَ إتلاف. ويجوز أن يكون الضمير عائداً إلى الراكبين على تأويل معاد الضمير بالجماعات بقرينة قوله: { بما كسبوا } فهو كقوله: { { وعلى كل ضامرٍ يأتين من كلّ فجّ عميق ليشهدُوا منافع لهم } [الحج: 27].

والباء للسببية وهو في معنى قوله: { { وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم } [الشورى: 30].

{ ويعف عن كثير } عطف على { يوبقهن } فهو في معنى جزاء للشرط المقدّر، أي وإن يشأ يعفُ عن كثير فلا يوبقهم مع استحقاقهم أن يُوبَقوا. وهذا العطف اعتراض.

{ وَيَعْلَمَ ٱلَّذِينَ يُجَـٰدِلُونَ فِىۤ ءَايَـٰتِنَا مَا لَهُمْ مِنْ مَّحِيصٍ }.

قرأ نافع وابن عامر ويعقوب برفع { ويعلمُ } على أنه كلام مستأنف. وقرأه الباقون بالنصب.

فأما الاستئناف على قراءة نافع وابن عامر ويعقوب فمعناه أنه كلام أنُف لا ارتباط له بما قبله، وذلك تهديد للمشركين بأنهم لا محيص لهم من عذاب الله لأنه لما قال: { { ومن آياته الجوارِ في البحر } [الشورى: 32] صار المعنى: ومن آيات انفراده بالإلـٰهية الجواري في البحر. والمشركون يجادلون في دلائل الوحدانية بالإعْراض والانصراف عن سماعها فهددهم الله بأن أعلمهم أنهم لا محيص لهم، أي من عذابه، فحُذف متعلق المحيص إبهاماً له تهويلاً للتهديد لتذهب النفس كل مذهب ممكن فيكون قوله: { ويعلم الذين يجادلون } خبَراً مراداً به الإنشاء والطلب فهو في قوة: وليعلمْ الذين يجادلون، أو اعلموا يا من يجادلون، وليس خبراً عنهم لأنهم لا يؤمنون بذلك حتى يعلموه.

وأما قراءة النصب فهي عند سيبويه وجمهور النحاة على العطف على فعلٍ مدخول للام التعليل، وتضمَّن (أنْ) بعده. والتقدير: لينتقم منهم ويعلم الذين يجادلون الخ. وسموا هذه الواو واو الصَّرفْ لأنها تصرف ما بعدها عن أن يكون معطوفاً على ما قبلها، إلى أن يكون معطوفاً على فعل متصيَّد من الكلام، وهذا قول سيبويه في باب ما يرتفع بين الجزمين وينجزم بينهما، وتبعه في «الكشاف»، وذهب الزجاج إلى أن الواو واو المعية التي ينصب الفعل المضارع بعدها بــ (أن) مضمرة.

ويجوز أن يجعل الخبر مستعملاً في مقاربة المخبر به كقولهم: قد قامت الصلاة، فلما كان علمهم بذلك يوشك أن يَحصل نُزّل منزلة الحاصل فأخبر عنهم به، وعلى هذا الوجه يكون إنذاراً بعقاب يحصل لهم قريب وهو عذاب السيف والأسْر يوم بدر.

وذكر فعل { يعلَم } للتنويه والاعتناء بالخبر كقوله تعالى: { { واعْلموا أنكم ملاقُوه } في سورة البقرة (223)، وقوله: { { واعلموا أنما غنمتم من شيء } في سورة الأنفال (41)، "وقول النبي صلى الله عليه وسلم حين رأى أبا مسعود الأنصاري يضرب غلاماً له فناداه: اعْلَم أبَا مسعود اعْلم أبَا مسعود، قال أبو مسعود: فالتفتُّ فإذا هو رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا هو يقول: اعلَم أبا مسعود. فألقيت السوط من يدي، فقال لي: إن الله أقدر عليك منكَ على هذا الغلام" رواه مسلم أواخر كتاب الإيمان. وتقدم معنى { الذين يجادلون في آياتنا } في هذه السورة.

و{ مَا } نافية، وهي معلِّقة لفعل { يعلم } عن نصب المفعولين.

والمَحِيص: مصدر ميمي من حاص، إذا أخذ في الفرار ومَال في سَيره، وفي حديث أبي سفيان في وصْف مجلس هرقل «فحاصُوا حَيْصة حُمر الوحش وأغلقت الأبواب». والمعنى: ما لهم من فرار ومهرب من لقاء الله. والمراد: ما لهم من محيد ولا ملجأ. وتقدم في قوله تعالى: { { ولا يجدون عنها محيصاً } في سورة النساء (121).