خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَهَـٰذَا كِتَٰبٌ أَنزَلْنَـٰهُ مُبَارَكٌ فَٱتَّبِعُوهُ وَٱتَّقُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ
١٥٥
أَن تَقُولُوۤاْ إِنَّمَآ أُنزِلَ ٱلْكِتَابُ عَلَىٰ طَآئِفَتَيْنِ مِن قَبْلِنَا وَإِن كُنَّا عَن دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ
١٥٦
أَوْ تَقُولُواْ لَوْ أَنَّآ أُنزِلَ عَلَيْنَا ٱلْكِتَابُ لَكُنَّآ أَهْدَىٰ مِنْهُمْ فَقَدْ جَآءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَّبَ بِآيَاتِ ٱللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي ٱلَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوۤءَ ٱلْعَذَابِ بِمَا كَانُواْ يَصْدِفُونَ
١٥٧
-الأنعام

التحرير والتنوير

جملة: { وهذا كتاب أنزلته مبارك } عطف على جملة: { { ثمّ آتينا موسى الكتاب } [الأنعام: 154]. والمعنى: آتينا موسى الكتاب وأنزلنا هذا الكتاب كما تقدّم عند قوله تعالى: { { ثم آتينا موسى الكتاب } [الأنعام: 154] الخ...

وافتتاح الجملة باسم الإشارة، وبناءُ الفعل عليه، وجعل الكتاب الذي حقّه أن يكون مفعولَ: { أنزلناه } مبتدأ، كلّ ذلك للاهتمام بالكتاب والتّنويه به، وقد تقدّم نظيره: { { وهذا كتاب أنزلناه مبارك مصدق الذي بين يديه } في هذه السّورة (92).

وتفريع الأمر باتباعه على كونه منزلاً من الله، وكونه مباركاً، ظاهر: لأنّ ما كان كذلك لا يتردّدُ أحد في اتّباعه.

والاتِّباع أطلق على العمل بما فيه على سبيل المجاز. وقد مضى الكلام فيه عند قوله تعالى: { { إن أتبع إلا ما يوحى إليّ } [الأنعام: 50]، وقوله: { { اتبع ما أوحي إليك من ربك } في هذه السّورة (106).

والخطاب في قوله: { فاتبعوه } للمشركين، بقرينة قوله: { أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا }.

وجملة: { أنزلناه } في محلّ الصّفة لــــ { كتاب }، و(مبارك) صفة ثانية، وهما المقصد من الإخبار، لأنّ كونه كتاباً لا مِرْيَة فيه، وإنَّما امْتروا في كونه منزّلاً من عند الله، وفي كونه مباركاً. وحسن عطف: { مبارك } على: { أنزلناه } لأنّ اسم المفعول ــــ لاشتقاقه ــــ هو في قوّة الفعل. ومعنى: { اتَّقُوا } كونوا متَّصفين بالتَّقوى وهي الأخذ بدين الحقّ والعملُ به. وفي قوله: { لعلكم ترحمون } وعد على اتّباعه وتعريض بالوعيد بعذاب الدّنيا والآخرة إن لم يتَّبعوه.

وقوله: { أن تقولوا } في موضع التّعليل لفعل { أنزلناه } على تقدير لام التّعليل محذوفة على ما هو معروف من حذفها مع (أنْ). والتّقدير: لأن تقولوا، أي لقولكم ذلك في المستقبل، أي لملاحظة قولكم وتَوقُّع وقوعه، فالقول باعث على إنزال الكتاب.

والمقام يدلّ على أنّ هذا القول كانَ باعثاً على إنزال هذا الكتاب، والعلّة الباعثة على شيء لا يلزم أن تكون علّة غائية، فهذا المعنى في اللاّم عكس معنى لام العاقبة، ويؤول المعنى إلى أنّ إنزال الكتاب فيه حِكَم منها حكمة قطع معذرتهم بأنَّهم لم ينزّل إليهم كتاب، أو كراهية أن يقولوا ذلك، أو لتجنّب أن يقولوه، وذلك بمعونة المقام إيثاراً للإيجاز فلذلك يقدّر مضافٌ مثل: كراهيةَ أو تجنّبَ. وعلى هذا التّقدير جرى نحاة البصرة. وذهب نحاة الكوفة إلى أنَّه على تقدير (لاَ) النّافية، فالتّقدير عندهم: أنْ لا تقولوا، والمآل واحد ونظائر هذا في القرآن كثيرة كقوله: { { يبين الله لكم أن تضلوا } [النساء: 176] ــــ وقوله: ــــ { { واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم من قبل أن يأتيكم العذاب بغتة وأنتم لا تشعرون أن تقول نفس يا حسرتى على ما فرطت في جنب الله } [الزمر: 55، 56] ــــ وقوله: ــــ { { وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم } [النحل: 15] أي لتجنّب مَيْدها بكم، وقول عمرو بن كثلوم:

فَعَجَّلْنَا القِرَى أنْ تَشْتُمُونَا

وهذا القول يجُوز أن يكون قد صدر عنهم من قبلُ، فقد جاء في آية سورة القصص (48): { { فلما جاءهم الحق من عندنا قالوا لولا أوتي مثل ما أوتي موسى } ويجُوز أن يكون متوقّعاً ثمّ قالوه من بعد، وأيّاً مَا كان فإنَّه متوقّع أن يكرّروه ويعيدوه قولاً موافقاً للحال في نفس الأمر، فكان متوقّعاً صدوره عند ما يتوجّه الملام عليهم في انحطاطهم عن مجاوريهم من اليهودِ والنّصارى من حيث استكمال الفضائل وحسن السّير وكمال التديّن، وعند سؤالهم في الآخرة عن اتّباع ضلالهم، وعندما يشاهدون ما يناله أهل الملل الصّالحة من النّعيم ورفع الدّرجات في ثواب الله فيتطلّعون إلى حظّ من ذلك ويتعلّلون بأنَّهم حرموا الإرشاد في الدّنيا.

وقد كان اليهود والنّصارى في بلاد العرب على حالة أكمل من أحوال أهل الجاهليّة، ألا ترى إلى قول النّابغة يمدح آل النّعمان بن الحارث، وكانوا نصارى:

مَجَلَّتُهم ذاتُ الإله ودينُهمقَويمٌ فما يَرْجُون غيرَ العواقب
ولا يَحْسِبُون الخَيْر لا شرّ بعدهولا يحسبون الشرّ ضَرْبَةَ لازب

والطائفة: الجماعة من النّاس الكثيرة، وقد تقدّم عند قوله تعالى: { { فلتقم طائفة منهم معك } في سورة النّساء (102)، والمراد بالطّائفتين هنا اليهود والنّصارى.

والكتاب مراد به الجنس المنحصر في التّوراة والإنجيل والزّبور. ومعنى إنزال الكتاب عليهم أنَّهم خوطبوا بالكتب السّماوية التي أنزلت على أنبيائهم فلم يكن العرب مخاطبين بما أنزل على غيرهم، فهذا تعلّل أول منهم، وثمة اعتلال آخر عن الزّهادة في التخلّق بالفضائل والأعمال الصالحة: وهو قولهم: وإن كنا عن دراستهم لغافلين }، أي وأنَّا كنّا غافلين عن اتباع رشدهم لأنّا لم نتعلم، فالدّراسة مراد بها التعليم.

والدّراسة: القراءة بمعاودة للحفظ أو للتّأمّل، فليس سرد الكتاب بدراسة. وقد تقدّم قوله تعالى: { { وليقولوا درست } في هذه السّورة (105)، وتقدّم تفصيله عند قوله تعالى: { { وبما كنتم تدرسون } من سورة آل عمران (79).

والغفلة: السّهو الحاصل من عدم التفطّن، أي لم نهتمّ بما احتوت عليه كتبهم فنقتدي بهديها، فكان مجيء القرآن منبّها لهم للهدي الكامل ومغنِياً عن دراسة كتبهم.

وقوله: { أو تقولوا لو أنا أنزل علينا الكتاب لكنا أهدى منهم } تدرّج في الاعتلال جاء على ما تكنّه نفوس العرب من شفوفهم بأنفسهم على بقيّة الأمم، وتطلّعهم إلى معالي الأمور، وإدلالهم بفطنتهم وفصاحة ألسنتهم وحِدّة أذهانهم وسرعة تلقّيهم، وهم أخلقاء بذلك كلّه.

وفي الإعراب عن هذا الاعتلال منهم تلقين لهم، وإيقاظ لأفهامهم أن يغتبطوا بالقرآن، ويفهموا ما يعود عليهم به من الفضل والشّرف بين الأمم، كقوله تعالى: { { لقد أنزلنا إليكم كتابا فيه ذكركم أفلا تعقلون } [الأنبياء: 10]. وقد كان الذين اتَّبعوا القرآن أهدى من اليهود والنّصارى ببون بعيد الدّرجات.

ولقد تهيّأ المقام بعد هذا التّنبيه العجيب لفاء الفصيحة في قوله: { فقد جاءكم بينة من ربكم } وتقديرها: فإذا كنتم تَقولون ذلك ويهجس في نفوسكم فقد جاءكم بيانٌ من ربِّكم يعني القرآن، يدفع عنكم ما تستشعرون من الانحطاط عن أهل الكتاب.

والبيّنة ما به البيان وظهور الحقّ. فالقرآن بيّنة على أنَّه من عند الله لإعجازه بلغاء العرب، وهو هدي بما اشتمل عليه من الإرشاد إلى طرق الخير، وهو رحمة بما جاء به من شريعة سمحة لا حرج فيها، فهي مقيمة لصلاح الأمّة مع التّيسير. وهذا من أعجب التّشريع وهو أدلّ على أنَّه من أمر العليم بكلّ شيء.

وتفرّع عن هذا الإعذار لهم الإخبار عنهم بأنَّهم لا أظلم منهم، لأنَّهم كذّبوا وأعرضوا. فالفاء في قوله: { فمن أظلم } للتّفريع. والاستفهامُ إنكاري، أي لا أحد أظلم من الذين كذّبوا بآيات الله.

و(مَن) في { ممن كذب بآيات الله } موصولة وما صدقُها المخاطبون من قوله: { أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين }.

والظّلم هنا يشمل ظلم نفوسهم، إذ زجُّوا بها إلى العذاب في الآخرة وخسران الدّنيا، وظلمَ الرّسول صلى الله عليه وسلم إذ كذّبوه، وما هو بأهل التّكذيب، وظلم الله إذ كذّبوا بآياته وأنكروا نعمته، وظلموا النّاس بصدّهم عن الإسلام بالقول والفعل.

وقد جيء باسم الموصول لتدلّ الصّلة على تعليل الحكم ووجه بناء الخبر، لأنّ من ثبَت له مضمون تلك الصّلة كان حقيقا بأنَّه لا أظلم منه.

ومعنى { صَدَف } أعرض هُو، ويطلق بمعنى صَرف غيره كما في «القاموس». وأصله التّعدية إلى مفعول بنفسه وإلى الثّاني بــــ { عن } يقال: صدفتُ فلاناً عن كذا، كما يقال: صرفتُه، وقد شاع تنزيله منزلة اللاّزم حتّى غلب عدمُ ظهور المفعول به، يقال: صدَف عن كذا بمعنى أعرض وقد تقدّم عند قوله تعالى: { { انظر كيف نصرّف الآيات ثمّ هم يصدفون } في هذه السّورة (46)، وقدّره في الكشاف هنا متعدّياً لأنَّه أنسب بكونهم أظلم النّاس تكثيراً في وجوه اعتدائهم، ولم أر ذلك لِغيره نظراً لقوله تعالى: { سنجزي الذين يصدفون عن آياتنا سوء العذاب } إذ يناسبه معنى المتعدّي لأنّ الجزاء على أعراضهم وعلى صدّهم النّاس عن الآيات، فإنّ تكذيبهم بالآيات يتضمّن إعْراضهم عنها فناسب أن يكون صَدْفهم هو صرفَهم النّاس.

و{ سوء العذاب } من إضافة الصّفة إلى الموصوف، وسوءه أشدّه وأقواه، وقد بيّن ذلك قوله تعالى: { { الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله زدناهم عذاباً فوق العذاب بما كانوا يفسدون } [النحل: 88]. فقوله: { عذاباً فوق العذاب } هو مضاعفة العذاب، أي شدّته. ويحتمل أنَّه أريد به عذاب الدّنيا بالقتل والذلّ، وعذاب الآخرة، وإنَّما كان ذلك جزاءهم لأنَّهم لم يكذِّبوا تكذيباً عن دعوة مجرّدة، بل كذّبوا بعد أن جاءتهم الآيات البيّنات.

و(ما) مَصدريّة: أي بصدفهم وإعراضهم عن الآيات إعراضاً مستمراً لم يدعوا راغبه فــــ { كان } هنا مفيدة للاستمرار مثل: { { وكان الله غفوراً رحيماً } [النساء: 96].