خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّيۤ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ ٱلْمُشْرِكِينَ
١٦١
-الأنعام

التحرير والتنوير

استئناف ابتدائي للانتقال من مجادلة المشركين، وما تخلّلها، إلى فذلكة ما أُمر به الرّسول صلى الله عليه وسلم في هذا الشّأن، غَلقاً لباب المجادلة مع المعرضين، وإعلاناً بأنّه قد تقلّد لنفسه ما كان يجادلهم فيه ليتقلّدوه وأنَّه ثابت على ما جاءهم به، وأنّ إعراضهم لا يزلزله عن الحقّ.

وفيه إيذان بانتهاء السّورة لأنّ الواعظ والمناظر إذا أشبع الكلام في غرضه، ثمّ أخذ يبين ما رَضِيه لِنفسه وما قَرّ عليه قَراره، علم السّامع أنَّه قد أخذ يطوي سجلّ المحاجّة، ولذلك غيّر الأسلوب. فأمر الرّسول صلى الله عليه وسلم بأن يقول أشياء يعلن بها أصول دينه، وتكرّر الأمر بالقول ثلاث مرّات تنويهاً بالمقول.

وقوله: { إنني هداني ربي } متصل بقوله: { { وأنّ هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه } [الأنعام: 153] الذي بيّنه بقوله: { { وهذا كتاب أنزلناه مبارك } [الأنعام: 92] فزاده بياناً بقوله هذا: { قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم }، ليبيّن أنّ هذا الدّين إنَّما جاء به الرّسول صلى الله عليه وسلم بهدي من الله، وأنَّه جعله ديناً قيّماً على قواعد ملّة إبراهيم عليه السّلام، إلاّ أنَّه زائد عليه بما تضمّنه من نعمة الله عليه إذ هداه إلى ذلك الصّراط الذي هو سبيل النّجاة. وافتُتح الخبر بحرف التّأكيد لأنّ الخطاب للمشركين المكذّبين.

وتعريف المسند إليه بالإضافة للاعتزاز بمربوبية الرّسول صلى الله عليه وسلم للَّه تعالى، وتعريضاً بالمشركين الذين أضلّهم أربابهم، ولو وحّدوا الربّ الحقيق بالعبادة لهداهم.

وقوله: { هداني ربي إلى صراط مستقيم } تمثيليّة: شبّهت هيئة الإرشاد إلى الحقّ المبلّغ إلى النّجاة بهيئة من يدلّ السّائر على الطّريق المبلّغة للمقصود.

والمناسبة بين الهداية وبين الصّراط تامّة، لأنّ حقيقة الهداية التّعريف بالطّريق، يقال: هو هاد خِرّيت، وحقيقة الصّراط الطّريق الواسعة. وقد صحّ أن تستعار الهداية للإرشاد والتّعليم، والصّراطُ للدين القويم، فكان تشبيهاً مركّباً قابلاً للتفكيك وهو أكمل أحوال التّمثيليّة.

ووُصف الصّراط بالمستقيم، أي الذي لا خطَأ فيه ولا فساد، وقد تقدّم عند قوله تعالى: { { وأنّ هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه } [الأنعام: 153]، والمقصود إتمام هيئة التّشبيه بأنَّه دين لا يتطرّق متّبعه شكّ في نفعه كما لا يتردّد سالك الطّريق الواسعة التي لا انعطاف فيها ولا يتحيَّر في أمره.

وفي قوله: { ديناً } تجريد للاستعارة مؤذن بالمشبّه، وانتصب على الحال من: { صراط } لأنَّه نكرة موصوفة.

والدّين تقدّم عند قوله تعالى: { { إن الدِّين عند الله الإسلام } [آل عمران: 19] وهو السّيرة التي يتّبعها النّاس.

والقَيِّم ــــ بفتح القاف وتشديد الياء ــــ كما قرأه نافع، وابن كثير، وأبو عمرو، وأبو جعفر، ويعقوب: وصف مبالغة قَائم بمعنى معتدل غير معوج، وإطلاق القيام على الاعتدال والاستقامة مجاز، لأنّ المرء إذا قام اعتدلت قامته، فيلزم الاعتدال القيام. والأحسن أن نجعل القيم للمبالغة في القيام بالأمر، وهو مرادف القيّوم، فيستعار القيام للكفاية بما يحتاج إليه والوفاء بما فيه صلاح المقوّم عليه، فالإسلام قيّم بالأمّة وحاجتها، يقال: فلان قيّم على كذا، بمعنى مدبّر له ومصلح، ومنه وصف الله تعالى بالقيُّوم، وهذا أحسن لأنّ فيه زيادة على مفاد مستقيم الذي أخذ جزءاً من التّمثيليّة، فلا تكون إعادة لبعض التّشبيه.

وقرأ عاصم، وحمزة، وابن عامر، والكسائي، وخلف: { قيماً } ــــ بكسر القاف وفتح الياء مخفّفة ــــ وهو من صيغ مصادر قام، فهو وصف للدّين بمصدر القيام المقصودِ به كفاية المصلحة للمبالغة، وهذه زنة قليلة في المصادر، وقَلْبُ واوه ياء بعد الكسرة على غير الغالب: لأنّ الغالب فيه تصحيح لامِه لأنَّها مفتوحة، فسواء في خفّتِها وقوعها على الواو أو على الياء، مثل عِوَض وحِوَل، وهذَا كشذوذ جياد جمع جواد، وانتصب { قيماً } على الوصف لــــ { دينا }.

وقوله: { ملة إبراهيم } حال من: { ديناً } أو من: { صراط مستقيم } أو عطفُ بيان على { ديناً }.

والملّة، الدّين: فهي مرادفة الدين، فالتَّعبير بها هنا للتَّفنّن ألا ترى إلى قوله تعالى: { { ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بني إن الله اصطفى لكم الدين } [البقرة: 132].

و{ ملّة } فِعْلة بمعنى المفعول، أي المملول، من أمللت الكتاب إذا لقَّنت الكاتب ما يَكتب، وكان حقّها أن لا تقترن بهاء التّأنيث لأنّ زنة (فِعْل) بمعنى المفعول تلزم التّذكير، كالذِّبح، إلاّ أنَّهم قرنوها بهاء التّأنيث لما صيّروها اسماً للدّين، ولذلك قال الرّاغب: الملّة كالدّين، ثمّ قال: «والفرق بينها وبين الدّين أنّ الملّة لا تضاف إلاّ إلى النَّبيء الذي تسند إليه نحو ملّة إبراهيم، ملّة آبائي، ولا توجد مضافة إلى الله ولا إلى آحاد الأمّة، ولا تستعمل إلاّ في جملة الشّريعة دون آحادها لا يقال الصّلاة ملّة الله» أي ويقال: الصّلاةُ دين الله ذلك أنَّه يراعى في لفظ الملّة أنَّها مملول من الله فهي تضاف للّذي أُمِلَّت عليه.

ومعنى كون الإسلام ملّةَ إبراهيم: أنَّه جاء بالأصول التي هي شريعة إبراهيم وهي: التّوحيد، ومسايرة الفطرة، والشّكر، والسّماحة، وإعلان الحقّ، وقد بيَّنتُ ذلك عند قوله تعالى: { { ما كان إبراهيم يهودياً ولا نصرانياً ولكن كان حنيفاً مسلماً } في سورة آل عمران (67).

والحنيف: المُجانب للباطل، فهو بمعنى المهتدي، وقد تقدّم عند قوله تعالى: { { قل بل مِلَّة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين } في سورة البقرة (135). وهو منصوب على الحال.

وجملة: { وما كان من المشركين } عطف على الحال من { إبراهيم } عليه السّلام المضاف إليه، لأنّ المضاف هنا كالجزاء من المضاف إليه، وقد تقدّم في آية سورة البقرة.