خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

قُلْ أَغَيْرَ ٱللَّهِ أَبْغِي رَبّاً وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّكُمْ مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ
١٦٤
-الأنعام

التحرير والتنوير

{ قُلْ أَغَيْرَ ٱللَّهِ أَبْغِى رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَىْءٍ وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ }.

استئناف ثالث، مفتتح بالأمر بالقول، يتنزّل منزلة النّتيجة لما قبله، لأنَّه لمَّا عُلم أنّ الله هداه إلى صراط مستقيم، وأنقذه من الشّرك، وأمره بأن يمحّض عبادته وطاعته لربّه تعالى، شكراً على الهداية، أتبع ذلك بأن يُنكر أنْ يَعْبُد غير الله تعالى لأنّ واهب النّعم هو مستحقّ الشّكر، والعبادةُ جماع مراتب الشّكر، وفي هذا رجوع إلى بيان ضلالهم إذ عَبدوا غيره وإعادة الأمر بالقول تقدّم بيان وجهه.

والاستفهام إنكار عليهم لأنَّهم يرغبون أن يعترف بربوبية أصنامهم، وقد حاولوا منه ذلك غير مرّة سواء كانوا حاولوا ذلك منه بقرب نزول هذه الآية أم لم يحاولوه، فهم دائمون على الرّغبة في موافقتهم على دينهم، حكى ابن عطيّة عن النقّاش أنّ الكفّار قالوا للنّبي صلى الله عليه وسلم "ارجِعْ إلى ديننا واعْبُدْ آلهتنا ونحن نتكفّل لك بكلّ تباعة تتوقَّعها في دنياك وآخرتك" وأنّ هذه الآية نزلت في ذلك.

وقدّم المفعول على فعله لأنَّه المقصود من الاستفهام الإنكاري، لأنّ محلّ الإنكار هو أن يكون غير الله يُبتغى له ربّاً، ولأنّ ذلك هو المقصود من الجواب إذا صحّ أنّ المشركين دعوا النّبي صلى الله عليه وسلم لعبادة آلهتهم فيكون تقديمه على الفعل للاهتمام لموجِب أو لموجِبَيْن، كما تقدّم في قوله تعالى: { { قل أغير الله أتخذ وليا } في هذه السّورة (14).

وجملة: { وهو رب كل شيء } في موضع الحال، وهو حال معلّل للإنكار، أي أنّ الله خالق كلّ شيء وذلك باعترافهم، لأنَّهم لا يدّعون أنّ الأصنام خالقة لشيء، كما قال تعالى: { { لن يخلقوا ذباباً ولو اجتمعوا له } [الحج: 73] فلمّا كان الله خالق كلّ شيء وربَّه فلا حقّ لغيره في أن يعبده الخلائق، وعبادة غيره ظلم عظيم، وكفر بنعمة الربوبيّة، وبقطع النَّظر عن كون الخلق نعمة، لأنّ الخلق إيجاد والوجود أفضل من العدم، فإنّ مجرد الخلق موجب للعبادة لأجل العبوديّة.

وإنَّما قيل: { وهو رب كل شيء }، ولم يقل: وهو ربّي، لإثبات أنّه ربّه بطريق الاستدلال لكونه إثباتَ حكم عام يشمل المقصودَ الخاصّ، ولإفادة أنّ أربابهم غير حقيقة بالربوبيّة لأنَّها مربوبة أيضاً لله تعالى.

وقوله: { ولا تكسب كل نفس إلا عليها } من القول بالمأمور به، مفيد متاركةً للمشركين ومَقتاً لهم بأنّ عنادهم لا يَضرّه، فإنّ ما اقترفوه من الشّرك لا يناله منه شيء فإنَّما كسب كلّ نفس عليها، وهم من جملة الأنفس فكسبهم عليهم لا يتجاوزهم إلى غيرهم. فالتّعميم في الحكم الواقع في قوله: { كل شيء } فائدته مثل فائدة التّعميم الواقع في قوله: { وهو رب كل شيء }.

ودلّت كلمة (على) على أنّ مفعول الكسب المحذوف تقديره: شرّاً، أو إثماً، أو نحو ذلك، لأنّ شأن المخاطبين هو اكتساب الشرّ والإثم كقوله: { { ما عليك من حسابهم من شيء } [الأنعام: 52] ولك أن تجعل في الكلام احتباكاً تقديره: ولا تكسب كلّ نفس إلاّ لها ولا تكتسب إلا عليها فحذف من الأول لدلالة الثّاني وبالعكس إذا جربت على أن (كسب) يغلب في تحصيل الخير، وأنّ (اكتسب) يغلب في تحصيل الشرّ، سواء اجتمع الفعلان أم لم يجتمعا. ولا أحسب بين الفعلين فرقا، وقد تقدّم عند قوله تعالى: { { لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت } [البقرة: 286]. والمعنى: أنّ ما يكتسبه المرء أو يكسبه لا يتعدى منه شيء إلى غيره.

وقوله: { ولا تزر وازرة وزر أخرى } تكملة لمعنى قوله: { ولا تكسب كل نفس إلا عليها } فكما أنّ ما تكسبه نفس لا يتعدّى منه شيء إلى غيرها، كذلك لا تحمل نفس عن نفس شيئاً، والمعنى: ولا أحمل أوزاركم.

فقوله: { وازرة } صفة لموصوف محذوف تقديره: نفس، دلّ عليه قوله: { ولا تكسب كل مفس إلا عليها }، أي لا تحمل نفس حاملة حِمْل أخرى.

والوزر: الحِمل، وهو ما يحمله المرء على ظهره، قال تعالى: { { ولكنّا حُمّلنا أوزاراً من زينة القوم } [ طه: 87]، وقد تقدّم عند قوله تعالى: { { وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم ألا ساء ما يزرون } [الأنعام: 31]. وأمَّا تسمية الإثم وزراً فلأنَّه يتخيّل ثقيلاً على نفس المؤمن. فمعنى { لا تزر وازرة } لا تحمل حاملة، أي لا تحمل نفس حين تحمل حمل أي نفس أخرى غيرها، فالمعنى لا تغني نفس عن نفس شيئاً تحمله عنها، أي كلّ نفس تزر وزر نفسها، فيفيد أنّ وزر كلّ أحد عليه وأنَّه لا يحمل غيرُه عنه شيئاً من وزره الذي وزَره وأنَّه لا تَبعة على أحد من وزر غيره من قريب أو صديق، فلا تغني نفس عن نفس شيئاً، ولا تُتَّبع نفس بإثم غيرها، فهي إن حَمَلت لا تحمل حِمل غيرها. وهذا إتمام لمعنى المتاركة.

{ ثمّ } للتّرتيب الرّتبي. وهذا الكلام يحتمل أن يكون من جملة القول المأمور به فيكون تعقيباً للمتاركة بما فيه تهديدهم ووعيدهم، فكان موقع { ثمّ } لأنّ هذا الخبر أهمّ. فالخطاب في قوله: { إلى ربكم مرجعكم } خطاب للمشركين وكذلك الضّميران في قوله: { بما كنتم فيه تختلفون } والمعنى: بما كنتم فيه تختلفون مع المسلمين، لأنّ الاختلاف واقع بينهم وبين المسلمين، وليس بين المشركين في أنفسهم اختلاف. فأدمج الوعيد بالوعيد. وقد جعلوا هذه الجملة مع التي قبلها آية واحدة في المصاحف.

ويحتمل أن يكون المقول قد انتهى عند قوله: { وزر أخرى } فيكون قوله: { ثم إلى ربكم مرجعكم } استئناف كلام من الله تعالى خطاباً للنّبيء صلى الله عليه وسلم وللمعاندين له. و(ثُمّ) صالحة للاستئناف لأنّ الإستئناف ملائم للتّرتيب الرّتبي، والكلام وعيد ووعد أيضاً. ولا ينافي ذلك أن تكون مع التي قبلها آية واحدة.

والتّنبئة: الإخبار، والمراد بها إظهار آثار الإيمان والكفر واضحة يوم الحساب، فيعلموا أنَّهم كانوا ضالّين، فشبّه ذلك العلم بأنّ الله أخبرهم بذلك يومئذ وإلاّ فإنّ الله نبأهم بما اختلفوا فيه من زمَن الحياة الدّنيا، أو المراد ينبّئكم مباشرة بدون واسطة الرّسل إنباء لا يستطيع الكافر أن يقول: هذا كذب على الله، كما ورد في حديث الحَشر: "فيُسمعهم الدّاعي ليس بينهم وبين الله حِجاب" .