خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُوۤاْ إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَـٰئِكَ لَهُمُ ٱلأَمْنُ وَهُمْ مُّهْتَدُونَ
٨٢
-الأنعام

التحرير والتنوير

هذه الجملة من حكاية كلام إبراهيم على ما ذهب إليه جمهور المفسِّرين فيكون جواباً منه عن قوله: { فأيّ الفريقين أحقّ بالأمن } [الأنعام: 81]. تولّى جوابَ استفهامه بنفسه ولم ينتظر جوابهم لكون الجواب ممَّا لا يسع المسؤول إلاّ أن يجيب بمثله، وهو تبكيت لهم. قال ابن عبَّاس: كما يسأل العالم ويُجيبُ نفسه بنفسه، أي بقوله: «فإن قلتَ قلتُ». وقد تقدّمت نظائره في هذه السورة.

وقيل: ليس ذلك من حكاية كلام إبراهيم، وقد انتهى قول إبراهيم عند قوله { إن كنتم تعلمون } [الأنعام: 81] بل هو كلام مستأنف من الله تعالى لابتداء حكم، فتكون الجملة مستأنفة استئنافاً ابتدائياً تصديقاً لقول إبراهيم.

وقيل: هو حكاية لكلام صدر من قوم إبراهيم جواباً عن سؤال إبراهيم { فأيّ الفريقين أحقّ بالأمن } [الأنعام: 81]. ولا يصحّ لأنّ الشأن في ذلك أن يقال: قال الذين آمنوا الخ، ولأنَّه لو كان من قول قومه لما استمرّ بهم الضلال والمكابرة إلى حدّ أن ألقَوا إبراهيم في النّار.

وحذف متعلّق فعل { آمنوا } لظهوره من الكلام السابق. والتقدير: الذين آمنوا بالله.

وحقيقة { يلبسوا } يخلطوا، وهو هنا مجاز في العمل بشيئين متشابهين في وقت واحد. شبّه بخلط الأجسام كما في قوله: { ولا تلبسوا الحقّ بالباطل } [البقرة: 42].

والظّلم: الاعتداء على حقّ صاحب حقّ، والمراد به هنا إشراك غير الله مع الله في اعتقاد الإلهية وفي العبادة، قال تعالى: { إنّ الشِّرك لظلم عظيم } [لقمان: 13] لأنَّه أكبر الاعتداء، إذ هو اعتداء على المستحقّ المطلق العظيم، لأنّ من حقّه أن يفرد بالعبادة اعتقاداً وعملاً وقولاً لأنّ ذلك حقّه على مخلوقاته. ففي الحديث "حقّ العباد على الله أن يعبدوه ولا يُشركوا به شيئاً" . وقد ورد تفسير الظلم في هذه الآية بالشرك. في الحديث الصحيح عن عبد الله بن مسعود "لمّا نزلت { الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون } شَقّ ذلك على المسلمين وقالوا: أيّنا لم يظلم نفسه" . فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم "ليس كما تَظُنّون إنَّما هو كما قال لقمان لابنه: { إنّ الشرك لظلم عظيم } [لقمان: 13] اهــ." وذلك أنّ الشرك جمع بين الاعتراف لله بالإلهية والاعتراف لغيره بالربوبيّة أيضاً. ولمَّا كان الاعتراف لغيره ظلماً كان إيمانهم بالله مخلوطاً بظلم وهو إيمانهم بغيره، وحَمله على هذا المعنى هو الملائم لاستعارة اسم الخَلط لهذا المعنى لأنّ الإيمان بالله وإشراكَ غيره في ذلك كلاهما من جنس واحد وهو اعتقاد الربوبيّة فهما متماثلان، وذلك أظهر في وجه الشبه، لأنّ شأن الأجسام المتماثلة أن يكون اختلاطها أشدّ فإنّ التَّشابُه أقوى أحوال التّشبيه عند أهل البيان. والمعنى الذين آمنوا بالله ولم يشركوا به غيره في العبادة.

وحَمَل الزمخشري الظلم على ما يشمل المعاصي، لأنّ المعصية ظلم للنَّفس كما في قوله تعالى: { فلا تظلموا فيهنّ أنفسكم } [التوبة: 36] تأويلاً للآية على أصول الاعتزال لأنّ العاصي غير آمن من الخلود في النّار فهو مساو للكافر في ذلك عندهم، مع أنَّه جَعَل قوله: { الذين آمنوا ولم يلبسوا } إلى آخره من كلام إبراهيم، وهو إن كان محكيّاً من كلام إبراهيم لا يصحّ تفسير الظلم منه بالمعصية إذ لم يكن إبراهيم حينئذٍ داعياً إلاّ للتَّوحيد ولم تكن له بعدُ شريعة، وإن كان غير محكي من كلامه فلا يناسب تفسيره فيه بالمعصية، لأنّ تعقيب كلام إبراهيم به مقصود منه تأييد قوله وتبيينُه، فالحقّ أنّ الآية غير محتاجة للتّأويل على أصولهم نظراً لهذا الذي ذكرناه.

والإشارة بقوله: { أولئك لهم الأمن } للتنبيه على أنّ المسند إليه جدير بالمسند من أجل ما تقدّم من أوصاف المسند إليه وهذا كقوله { أولئك على هدى من ربّهم } [البقرة: 5]. وقوله { لهم الأمْن } أشارت اللاّم إلى أنّ الأمن مختصّ بهم وثابت، وهو أبلغ من أن يُقال: آمنون. والمراد الأمن من عذاب الدنيا بالاستئصال ونحوه وما عُذّبت به الأمم الجاحدة، ومِن عذاب الآخرة إذ لم يكن مطلوباً منهم حينئذٍ إلاّ التوّحيد. والتّعريف في { الأمن } تعريف الجنس، وهو الأمن المتقدّم ذكره، لأنَّه جنس واحد، وليس التّعريف تعريف العهد حتَّى يجيء فيه قولهم: إنّ المعرفة إذا أعيدت معرفة فالثّانية عين الأولى إذ لا يحتمل هنا غير ذلك.

وقوله: { وهم مهتدون } معطوف على قوله: { لهم الأمن } عطفَ جزء جملة على الجملة التي هي في حكم المفرد، فيكون { مهتدون } خبراً ثانياً عن اسم الإشارة عُطف عليه بالواو على إحدى الطريقتين في الأخبار المتكرّرة.

والضمير للفصل ليفيد قصر المسند على المسند إليه، أي الاهتداء مقصور على الذين آمنوا ولم يلبِسوا إيمانهم بظلم دون غيرهم، أي أنّ غيرهم ليسوا بمهتدين، على طريقة قوله تعالى: { وأولئك هم المفلحون } [البقرة: 55] وقوله: { ألم يعلموا أنّ الله هو يقبل التّوبة عن عباده } [التوبة: 104]. وفيه إشارة إلى أنّ المخبَر عنهم لمَّا نَبذوا الشِّرك فقد اهتدوا.

ويجوز أن يكون قوله: { وهم مهتدون } جملة، بأنْ يكونَ ضمير الجمع مبتدأ و{ مهتدون } خبره، والجملة معطوفة على جملة { أولئك لهم الأمن }، فيكون خبراً ثانياً عن اسم الموصول، ويكون ذكر ضمير الجمع لأجل حُسن العطف لأنَّه لمّا كان المعطوف عليه جملة اسميّة لم يحسن أن يعطف عليه مفرد في معنى الفعل، إذ لا يحسن أن يقال: أولئك لهم الأمن ومهتدون؛ فصيغ المعطوف في صورة الجملة. وحينئذٍ فالضمير لا يفيد اختصاصاً إذ لم يؤت به للفصل، وهذا النظم نظير قوله تعالى: { له الملك وله الحمد وهو على كلّ شيء قدير } [التغابن: 1] وقوله: تعالى: { له ملك السماوات والأرض يحيي ويميت وهو على كلّ شيء قدير } [الحديد: 2] على اعتبار { وهو على كلّ شيء قدير } عطفاً على { له مُلك السماوات والأرض } وما بينهما حال، وهذا من محسِّنات الوصل كما عُرف في البلاغة، وهو من بدائع نظم الكلام العربي.