خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ ٱلشَّيْطَٰنِ نَزْغٌ فَٱسْتَعِذْ بِٱللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ
٢٠٠
-الأعراف

التحرير والتنوير

وهذا الأمر مراد به رسول الله صلى الله عليه وسلم ابتداء وهو شامل لأمته.

(إما) هذه هي (إنْ) الشرطية اتصلت بها (ما) الزايدة التي تزاد على بعض الأسماء غير أدوات الشروط فتصيرها أدواتِها، نحو (مهما) فإن أصلها مَاما، ونحو (إذما) و(أينما) و(أيانَما) و(حيثما) و(كيفما) فلا جرم أن (مَا) إذا اقترنت بما يدل على الشرط أكتسبته قوةَ شرطية فلذلك كتبت (إما) هذه على صُورة النطق بها ولم تكتب مفصولة النون عن (مَا).

والنزغ النخس والغرز، كذا فسره في «الكشاف» وهو التحقيق، وأما الراغب وابن عطية فقيداه بأنه دخول شيء في شيء لإفساده، (قلتَ: وقريبٌ منه الفسخ بالسين وهو الغرز بإبرة أو نحوها للوشْم) قال ابن عطية «وقلّما يُستعمل في غير فعل الشيطان { من بعد أن نزغ الشيطان بيني وبين إخوتي } [يوسف: 100].

وإطلاق النزغ هنا على وسوسة الشيطان استعارة: شبه حدوث الوسوسه الشيطانية في النفس بنزغ الإبرة ونحوها في الجسم بجامع التأثير الخفي، وشاعت هذه الاستعارة بعد نزول القرءان حتى صارت كالحقيقة.

والمعنى أن ألقى إليك الشيطان ما يخالف هذا الأمر بأن سوّل لك الأخذ بالمعاقبة أوْ سَوّل لك تركَ أمرهم بالمعروف غضباً عليهم أو يأساً من هداهم، فاستعذ بالله منه ليدفع عنك حرجه ويشرح صدرك لمحبة العمل بما أمرت به.

والاستعاذة مصدر طَلب العوذ، فالسين والتاء فيها للطلب، والعوذ: الإلتجاء إلى شيء يدفع مكروهاً عن الملتجيء، يقال: عاذ بفلان، وعاذ بالحرَم، وأعاذه إذا منعه من الضر الذي عَاذ من أجله.

فأمرَ الله بدفع وسوسة الشيطان بالعوذ بالله، والعوذُ بالله هو الالتجاء إليه بالدعاء بالعصمة، أو استحضار ما حدده الله له من حدود الشريعة، وهذا أمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم على الالتجاء إلى الله فيما عسر عليه، فإن ذلك شكر على نعمة الرسالة والعصمة، فإن العصمة من الذنوب حاصلة له، ولكنه يشكر الله بإظهار الحاجة إليه لادامتها عليه، وهذا مثل استغفار الرسول عليه الصلاة والسلام في قوله في حديث «صحيح مسلم» "إنه ليُغان على قلبي فاستغفر الله في اليوم أكثر من سبعين مرة" ، فالشيطان لا ييأس من إلقاء الوسوسة للأنبياء لأنها تنبعث عنه بطبعه، وإنما يترصد لهم مواقع خفاء مقصده طمعاً في زلة تصدر عن أحدهم، وإن كان قد علم أنه لا يستطيع إغواءهم، ولكنه لا يفارقه رجاء حملهم على التقصير في مراتبهم، ولكنه إذا ما هم بالوسوسة شعروا بها فدفعوها، ولذلك علم الله رسوله عليه الصلاة والسلام الاستعانة على دفعها بالله تعالى. روى الدارقطني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما منكم من أحد إلا وقد وُكل به قرينُه من الجن وقرينُه من الملائكةــــ قالوا ــــ وأنت يا رسول الله، قال وأنا ولكن الله أعانني عليه فأسلم" روي قوله: «فأسْلم» بفتح الميم بصيغة الماضي والهمزة أصلية، صار الشيطان المقارن لهُ مُسلماً، وهي خصوصية للنبيء صلى الله عليه وسلم وروي بضم الميم بصيغة المضارع، والهمزة للمتكلم: أي فأنا أسْلم من وسوسته وأحسب أن سبب الاختلاف في الرواية أن النبي صلى الله عليه وسلم نطق به موقوفاً عليه. وهذا الأمر شامل للمؤمنين وحظ المؤمنين منه أقوى لأن نزغ الشيطان إياهم أكثر، فإن النبي صلى الله عليه وسلم مؤيد بالعصمة فليس للشيطان عليه سبيل.

وجملة: { إنه سميع عليم } في موقع العلة للأمر بالاستعاذة من الشيطان بالله على ما هو شأن حرف (إن) إذا جاء في غير مقام دَفع الشك أو الإنكارِ، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم لا ينكر ذلك ولا يتردد فيه، والمراد: التعليل بِلازم هذا الخبر، وهو عوذه مما استعاذه منه، أي: أمرناك بذلك لأن ذلك يعصمك من وسوسته لأن الله سميع عليم.

و«السميع»: العالم بالمسموعات، وهو مراد منه معناه الكنائي، أي عليم بدعائك مستجيب قابِل للدعوة، كقول أبي ذؤيب:

دَعاني إليها القلب إني لامْرِهسَميع فما أدْري أرُشْدٌ طِلابُها

أي ممتثل، فوصفُ { سميع } كناية عن وعد بالإجابة.

وإتْباعه بوصف { عليم } زيادة في الإخبار بعموم علمه تعالى بالأحوال كلها، لأن وصف { سميع } دل على أنه يعلم استعاذة الرسول عليه الصلاة والسلام ثم أتبعه بما يدل على عموم العلم، وللإشارة إلى أن الرسول صلى الله عليه وسلم بمحل عنايه الله تعالى فهو يعلم ما يريد به الشيطان عدوُه، وهذا كناية عن دفاع الله عن رسوله كقوله: { { فإنك بأعْيُننا } [الطور: 48] وأن أمره بالاستعاذة وقوف عند الأدب والشكرِ وإظهارِ الحاجة إلى الله تعالى.