خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَن لَّمْ يَلْبَثُوۤاْ إِلاَّ سَاعَةً مِّنَ ٱلنَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِلِقَآءِ ٱللَّهِ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ
٤٥
-يونس

أضواء البيان في تفسير القرآن

قوله تعالى: { وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَن لَّمْ يَلْبَثُوۤاْ إِلاَّ سَاعَةً مِّنَ ٱلنَّهَارِ } الآية.
بين تعالى في هذه الآية الكريمة، أن الكفار إذا حشروا استقلوا مدة مكثهم في دار الدنيا، حتى كأنها قدر ساعة عندهم، وبين هذا المعنى في مواضع أخر، كقوله في آخر "الأحقاف".
{ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوۤاْ إِلاَّ سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ } [الأحقاف: 35] الآية، وقوله في آخر "النازعات": { كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوۤاْ إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا } [النازعات: 46]، وقوله في آخر "الرُّوم": { { وَيَوْمَ تَقُومُ ٱلسَّاعَةُ يُقْسِمُ ٱلْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُواْ غَيْرَ سَاعَةٍ } [الروم: 55] الآية.
وقد بينا بإيضاح في كتابنا (دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب)، وجه الجمع بين هذه الآيات المقتضية أن الدنيا عندهم كساعة، وبين الآيات المقتضية أنها عندهم كأكثر من ذلك، كقوله تعالى:
{ { يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ عَشْراً } [طه: 103] وقوله: { قَالُواْ لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ ٱلْعَآدِّينَ } [المؤمنون: 113] فانظره فيه في سورة: { { قَدْ أَفْلَحَ ٱلْمُؤْمِنُونَ } [المؤمنون: 1] في الكلام على قوله: { قَالُواْ لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ ٱلْعَآدِّينَ }.
قوله تعالى: { يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ }.
صرح في هذه الآية الكريمة: أن أهل المحشر يعرف بعضهم بعضاً فيعرف الآباء الأبناء، كالعكس، ولكنه بين في مواضع أخر أن هذه المعارفة لا أثر لها، فلا يسأل بعضهم بعضاً شيئاً، كقوله:
{ { وَلاَ يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً يُبَصَّرُونَهُمْ } [المعارج: 10-11]، وقوله: { { فَإِذَا نُفِخَ فِي ٱلصُّورِ فَلاَ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَتَسَآءَلُونَ } [المؤمنون: 101].
وقد بينا في كتابنا (دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب) أيضاً: وجه الجمع بين قوله:
{ فَلاَ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَتَسَآءَلُونَ، وبين قوله: وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ يَتَسَآءَلُونَ } [الصافات: 27]، في سورة: { قَدْ أَفْلَحَ ٱلْمُؤْمِنُونَ }: أيضاً.
قوله تعالى: { قَدْ خَسِرَ ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِلِقَآءِ ٱللَّهِ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ }.
صرح تعالى في هذه الآية الكريمة: بخسران المكذبين بلقائه، وأنهم لم يكونوا مهتدين، ولم يبين هنا المفعول به لقوله خسر، وذكر في مواضع كثيرة أسباباً من أسباب الخسران، وبين في مواضع أخر المفعول المحذوف هنا، فمن الآيات المماثلة لهذه الآية، قوله تعالى في "الأنعام":
{ { قَدْ خَسِرَ ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِلِقَآءِ ٱللَّهِ حَتَّىٰ إِذَا جَآءَتْهُمُ ٱلسَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُواْ يٰحَسْرَتَنَا عَلَىٰ مَا فَرَّطْنَا فِيهَا } [الأنعام: 31] الآية، وقوله تعالى في "البقرة": { { ٱلَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ ٱللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَآ أَمَرَ ٱللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي ٱلأرْضِ أُولَـۤئِكَ هُمُ ٱلْخَاسِرُونَ } [البقرة: 27]، وقوله في "البقرة" أيضاً: { { ٱلَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ ٱلْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ أُوْلَـٰئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمن يَكْفُرْ بِهِ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْخَاسِرُونَ } [البقرة: 121]، وقوله في "الأعراف": { { أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ ٱللَّهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ ٱللَّهِ إِلاَّ ٱلْقَوْمُ ٱلْخَاسِرُونَ } [الأعراف: 99]، وقوله في "الأعراف" أيضاً: { مَن يَهْدِ ٱللَّهُ فَهُوَ ٱلْمُهْتَدِي وَمَن يُضْلِلْ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْخَاسِرُونَ } [الأعراف: 178]، وقوله في "الزمر": { لَّهُ مَقَالِيدُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِـآيَاتِ ٱللَّهِ أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْخَاسِرُونَ } [الزمر: 63].
والآيات في مثل هذا كثيرة، وقد أقسم تعالى على أن هذا الخسران لا ينجو منه إنسان إلا بأربعة أمور:
الأول: الإيمان.
الثاني: العمل الصالح.
الثالث: التواصي بالحق.
الرابع: التواصي بالصبر.
وذلك في قوله:
{ وَٱلْعَصْرِ إِنَّ ٱلإِنسَانَ } [العصر: 1-2] إلى آخر السورة الكريمة. وبين في مواضع أخر، أن المفعول المحذوف الواقع عليه الخسران هو أنفسهم، كقوله في "الأعراف": { { وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ خَسِرُوۤاْ أَنْفُسَهُم بِمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يِظْلِمُونَ } [الأعراف: 9]، وقوله في "المؤمنون": { وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فأُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ خَسِرُوۤاْ أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ } [المؤمنون: 103] وقوله في "هود": { أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ خَسِرُوۤاْ أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ } [هود: 21].
وزاد في مواضع أخر خسران الأهل مع النفس، كقوله في "الزمر":
{ { قُلْ إِنَّ ٱلْخَاسِرِينَ ٱلَّذِينَ خَسِرُوۤاْ أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ أَلاَ ذَلِكَ هُوَ ٱلْخُسْرَانُ ٱلْمُبِينُ } [الزمر: 15]، وقوله في "الشورى": { { وَقَالَ ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِنَّ ٱلْخَاسِرِينَ ٱلَّذِينَ خَسِرُوۤاْ أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ أَلاَ إِنَّ ٱلظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُّقِيمٍ } [الشورى: 45].
وبين في موضع آخر أن خسران الخاسرين قد يشمل الدنيا والآخرة، وهو قوله:
{ { وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَعْبُدُ ٱللَّهَ عَلَىٰ حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ ٱطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ ٱنْقَلَبَ عَلَىٰ وَجْهِهِ خَسِرَ ٱلدُّنْيَا وَٱلآُخِرَةَ ذٰلِكَ هُوَ ٱلْخُسْرَانُ ٱلْمُبِينُ } [الحج: 11].