خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ ٱلَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَـٰذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ
١٠٣
-النحل

أضواء البيان في تفسير القرآن

قوله تعالى: { وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ }.
أقسم جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أنه يعلم أن الكفار يقولون: إن هذا القرآن الذي جاء به النَّبي صلى الله عليه وسلم ليس وحياً من الله، وإنما تعلمه من بشر من الناس.
وأوضح هذا المعنى في غير هذا الموضع، كقوله
{ وَقَالُوۤاْ أَسَاطِيرُ ٱلأَوَّلِينَ ٱكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَىٰ عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً } [الفرقان: 5]، وقوله: { فَقَالَ إِنْ هَـٰذَآ إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ } [المدثر: 24] أي يرويه محمد صلى الله عليه وسلم عن غيره، وقوله: { وَلِيَقُولُواْ دَرَسْتَ } [الأنعام: 105] الآية كما تقدم (في الأنعام).
وقد اختلف العلماء في تعيين هذا البشر الذي زعموا أنه يعلم النَّبي صلى الله عليه وسلم، وقد صرح القرآن بأنه أعجمي اللسان. فقيل: هو غلام الفاكه بن المغيرة، واسمه جبر، وكان نصرانياً فأسلم. وقيل: اسمه يعيش عبد لبني الحضرمي، وكان يقرأ الكتب الأعجمية. وقيل: غلام لبني عامر بن لؤي. وقيل: هما غلامان: اسم أحدهما يسار، واسم الآخر جبر، وكانا صيقليين يعملان السيوف، وكانا يقرآن كتاباً لهم. وقيل: كانا يقرآن التوراة والإنجيل، إلى غير ذلك من الأقوال.
وقد بين جل وعلا كذبهم وتعنتهم في قولهم: { إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ } بقوله: { لِّسَانُ ٱلَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَـٰذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ } [النحل: 103]. أي كيف يكون تعلمه من ذلك البشر، مع أن ذلك البشر أعجمي اللسان. وهذا القرآن عربي مبين فصيح، لا شائبة فيه من العجمة. فهذا غير معقول.
وبين شدة تعنتهم أيضاً بأنه لو جعل القرآن أعجمياً لكذبوه أيضاً وقالوا: كيف يكون هذا القرآن أعجمياً مع أن الرسول الذي أنزل عليه عربي. وذلك في قوله
{ وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أعْجَمِيّاً لَّقَالُواْ لَوْلاَ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ ءَاعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ } [فصلت: 44] أي أقرآن أعجمي، ورسول عربي. فكيف ينكرون أن القرآن أعجمي والرسول عربي، ولا ينكرون أن المعلم المزعوم أعجمي، مع أن القرآن المزعوم تعليمه له عربي.
كما بين تعنتهم أيضاً، بأنه لو نزل هذا القرآن العربي المبين، على أعجمي فقرأه عليهم عربيّاً لكذبوه أيضاً، مع ذلك الخارق للعادة. لشدة عنادهم وتعنتهم، وذلك في قوله
{ وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَىٰ بَعْضِ ٱلأَعْجَمِينَ فَقَرَأَهُ عَلَيْهِم مَّا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ } [الشعراء: 198 - 199].
وقوله في هذه الآية الكريمة: { يلحدون } أي يميلون عن الحق. والمعنى لسان البشر الذي يلحدون، أي يميلون قولهم عن الصدق والاستقامة إليه - أعجمي غير بين، وهذا القرآن لسان عربي مبين، أي ذو بيان وفصاحة وقرأ هذا الحرف حمزة والكسائي { يلحدون } بفتح الياء والحاء، من لحد الثلاثي. وقرأه الباقون { يلحدون } بضم الياء وكسر الحاء من ألحد الرباعي، وهما لغتان، والمعنى واحد. أي يميلون عن الحق إلى الباطل. وأما { يلحدون } التي في (الأعراف، والتي في فصلت) فلم يقرأهما بفتح الياء والحاء إلا حمزة وحده دون الكسائي. وإنما وافقه الكسائي في هذه التي في (النحل) وأطلق اللسان على القرآن لأن العرب تطلق اللسان وتريد به الكلام. فتؤنثها وتذكرها. ومنه قول أعشى باهلة:

إني أتتني لسان لا أسر بها من علو لا عجب فيها ولا سخر

وقول الآخر:

لسان الشر تهديها إلينا وخنت وما حسبتك أن تخونا

قول الآخر:

أتتني لسان بني عامرأحاديثها بعد قول نكر

ومنه قوله تعالى: { وَٱجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي ٱلآخِرِينَ } [الشعراء: 84] أي ثناءً حسناً باقياً. ومن إطلاق اللسان بمعنى الكلام مذكراً قول الحطيئة:

ندمت على لسان فات مني فليت بأنه في جوف عكم