خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

خَلَقَ ٱلإِنْسَانَ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ
٤
-النحل

أضواء البيان في تفسير القرآن

قوله تعالى: { خَلَقَ ٱلإِنْسَانَ مِن نُّطْفَةٍ }.
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أنه خلق الإنسان من نطفة، وهي مني الرجل ومني المرأة. بدليل قوله تعالى:
{ إِنَّا خَلَقْنَا ٱلإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ } [الإنسان: 2] أي أخلاط من ماء الرجل وماء المرأة.
وقال صاحب الدر المنثور بعد ذكر بعض الروايات في تفسير الأمشاج بالأخلاط: من ماء الرجل وماء المرأة. وأخرج الطستي عن ابن عباس: أن نافع بن الأزرق قال: أخبرني عن قوله { مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ } قال: اختلاط ماء الرجل وماء المرأة إذا وقع في الرحم. قال: وهل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم. أما سمعت أبا ذؤيب وهو يقول:

كأن الريش والفوقين منهخلال النصل خالطه مشيج

ونسب في اللسان هذا البيت لزهير بن حرام الهذلي، وأنشده هكذا:

كأن النصل والفوقين منها خلال الريش سيط به مشيج

قال: ورواه المبرد:

كأن المتن والشرجين منهخلاف النصل سيط به مشيج

قال: ورواه أبوعبيدة:

كأن الريش والفوقين منهاخلال النصل سيط به المشيج

ومعنى "سيط به المشيج": خلط به الخلط.
إذا عرفت معنى ذلك، فاعلم أنه تعالى بين أن ذلك الماء الذي هو النطفة، منه ما هو خارج من الصلب، أي وهو ماء الرجل، ومنه ما هو خارج من الترائب وهو ماء المرأة، وذلك قوله جل وعلا:
{ فَلْيَنظُرِ ٱلإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ خُلِقَ مِن مَّآءٍ دَافِقٍ يَخْرُجُ مِن بَيْنِ ٱلصُّلْبِ وَٱلتَّرَآئِبِ } [الطارق: 5-7] لأن المراد بالصلب صلب الرجل وهو ظهره، والمراد بالترائب ترائب المرأة وهي موضع القلادة منها. ومنه قول امرىء القيس:

مهفهفة بيضاء مفاضةترائبها مصقوله كالسجنجل

واستشهد ابن عباس لنافع بن الأزرق على أن الترائب موضع القلادة بقول المخبل أو ابن أبي ربيعة:

والزعفران على ترائبهاشرقا به اللبات والنحر

فقوله هنا "من بين الصلب والترائب" يدل على أن الأمشاج هي الأخلاط المذكورة. وأمر الإنسان بأن ينظر مم خلق في قوله: { فَلْيَنظُرِ ٱلإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ } [الطارق: 5] تنبيه له على حقارة ما خلق منه. ليعرف قدره، ويترك التكبر والعتو، ويدل لذلك قوله: { أَلَمْ نَخْلُقكُّم مِّن مَّآءٍ مَّهِينٍ } [المرسلات: 20] الآية.
وبين جل وعلا حقارته بقوله:
{ أَيَطْمَعُ كُلُّ ٱمْرِىءٍ مِّنْهُمْ أَن يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ كَلاَّ إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّمَّا يَعْلَمُونَ } [المعارج: 38-39] والتعبير عن النطفة بما الموصولة في قوله: { مِّمَّا يَعْلَمُونَ } فيه غاية تحقير ذلك الأصل الذي خلق منه الإنسان. وفي ذلك أعظم ردع، وأبلغ زجر عن التكبر والتعاظم.
وقوله جل وعلا: { فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ } [النحل:4] أظهر القولين فيه: أنه ذم للإنسان المذكور. والمعنى: خلقناه ليعبدنا ويخضع لنا ويطيع. ففاجأ بالخصومة والتكذيب، كما تدل عليه "إذا" الفجائية. ويوضح هذا المعنى قوله:
{ وَمَا خَلَقْتُ ٱلْجِنَّ وَٱلإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ } [الذاريات: 56] مع قوله جل وعلا: { أَوَلَمْ يَرَ ٱلإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مٌّبِينٌ وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَن يُحيِي ٱلْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا ٱلَّذِيۤ أَنشَأَهَآ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ } [يس: 77-79]، وقوله: { { وَهُوَ ٱلَّذِي خَلَقَ مِنَ ٱلْمَآءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيراً وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ مَا لاَ يَنفَعُهُمْ وَلاَ يَضُرُّهُمْ وَكَانَ ٱلْكَافِرُ عَلَىٰ رَبِّهِ ظَهِيراً } [الفرقان: 54-55]، وقوله: { وَيَقُولُ ٱلإِنْسَانُ أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيّاً أَوَلاَ يَذْكُرُ إلإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً } [مريم: 66-67] إلى غير ذلك من الآيات. وسيأتي إن شاء الله تعالى زيادة إيضاح لهذا المبحث في سورة "الطارق".
تنبيه
اختلف علماء العربية في "إذا" الفجائية. فقال بعضهم: هي حرف. وممن قال به الأخفش. قال ابن هشام في "المغني": ويرجح هذا القول قولهم: خرجت فإذا إن زيداً بالباب (بكسر إن) لأن "إن" المكسورة لا يعمل ما بعدها فيما قبلها. وقال بعضهم: هي ظرف مكان. وممن قال به المبرد. وقال بعضهم: هي ظرف زمان. وممن قال به الزجاج. والخصيم: صيغة مبالغة، أي شديد الخصومة. وقيل الخصيم المخاصم. وإتيان الفعيل بمعنى المفاعل كثير في كلام العرب، كالقعيد بمعنى المقاعد، والجليس بمعنى المجالس، والأكيل بمعنى المؤاكل، ونحو ذلك.
وقوله: "مبين" الظاهر أنه اسم فاعل أبان اللازمة، بمعنى بان وظهر. أي بين الخصومة. ومن إطلاق أبان بمعنى بان قول جرير.

إذا آباؤنا وأبوك عدوا أبان المقرفات من العراب

أي ظهر. وقول عمر بن أبي ربيعة المخزومي:

لو دب ذر فوق ضاحي جلدهالأبان من آثارهن حدور

يعنى لظهر من آثارهن وروم في الجلد. وقيل: من أبان المتعدية والمفعول محذوف. أي مبين خصومته ومظهر لها. والعلم عند الله تعالى.