خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ ٱلْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ ٱلْحُسْنَىٰ لاَ جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ ٱلْنَّارَ وَأَنَّهُمْ مُّفْرَطُونَ
٦٢
-النحل

أضواء البيان في تفسير القرآن

قوله تعالى: { وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ }.
أبهم جل وعلا في هذه الآية الكريمة هذا الذي يجعلونه لله ويكرهونه. لأنه عبر عنه بـ "ما" الموصولة، وهي اسم مبهم، وصلة الموصول لن تبين من وصف هذا المبهم إلا أنهم يكرهونه. ولكنه بين في مواضع أخر: أنه البنات والشركاء وجعل المال الذي خلق لغيره، قال في البنات:
{ { وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ ٱلْبَنَاتِ } [النحل:57] ثم بين كراهيتهم لها في آيات كثيرة، كقوله: { { وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِٱلأُنْثَىٰ } [النحل: 58] الآية. وقال في الشركاء: { وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ } [الأنعام: 100] الآية، ونحوها من الآيات. وبين كراهيتهم للشركاء في رزقهم بقوله: { ضَرَبَ لَكُمْ مَّثَلاً مِّنْ أَنفُسِكُمْ هَلْ لَّكُمْ مِّن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِّن شُرَكَآءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنتُمْ فِيهِ سَوَآءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ ٱلآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } [الروم: 28] أي إذا كان الواحد منكم لا يرضى أن يكون عبده المملوك شريكاً له مثل نفسه في جميع ما عنده. فكيف تجعلون الأوثان شركاء لله في عبادته التي هي حقه على عباده! وبين جعلهم بعض ما خلق الله من الرزق للأوثان في قوله: { وَجَعَلُواْ للَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ ٱلْحَرْثِ وَٱلأَنْعَامِ نَصِيباً } [الأنعام: 136] - إلى قوله - { سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ } [الأنعام: 136] وقوله: { وَيَجْعَلُونَ لِمَا لاَ يَعْلَمُونَ نَصِيباً مِّمّا رَزَقْنَاهُمْ } [النحل: 56] كما تقدم.
قوله تعالى: { وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ ٱلْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ ٱلْحُسْنَىٰ }.
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن الكفار يقولون بألسنتهم الكذب. فيزعمون أن لهم الحسنى والحسنى تأنيث الأحسن، قيل: المراد بها الذكور. كما تقدم في قوله:
{ وَلَهُمْ مَّا يَشْتَهُونَ } [النحل: 57]. والحق الذي لا شك فيه: أن المراد بالحسنى: هو زعمهم أنه إن كانت الآخرة حقاً فسيكون لهم فيها أحسن نصيب كما كان لهم في الدنيا. ويدل على صحة هذا القول الأخير دليلان:
أحدهما - كثرة الآيات القرآنية المبينة لهذا المعنى. كقوله تعالى عن الكافر:
{ { وَلَئِن رُّجِّعْتُ إِلَىٰ رَبِّيۤ إِنَّ لِي عِندَهُ لَلْحُسْنَىٰ } [فصلت: 50]، وقوله { وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَىٰ رَبِّي لأَجِدَنَّ خَيْراً مِّنْهَا مُنْقَلَباً } [الكهف: 36]، وقوله: { وَقَالَ لأُوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً } [مريم: 77]، وقوله: { { وَقَالُواْ نَحْنُ أَكْثَـرُ أَمْوَالاً وَأَوْلاَداً وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ } [سبأ: 35]. وقوله: { أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي ٱلْخَيْرَاتِ } [المؤمنون: 55-56] الآية، إلى غير ذلك من الآيات.
والدليل الثاني - أن الله أتبع قوله: { أَنَّ لَهُمُ ٱلْحُسْنَىٰ } بقوله: { لاَ جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ ٱلْنَّارَ } الآية. فدل ذلك دلالة واضحة على ما ذكرنا، والعلم عند الله. والمصدر المنسبك من "أن" وصلتها في قوله { أَنَّ لَهُمُ ٱلْحُسْنَىٰ } في محل نصب، بدل من قوله { ٱلْكَذِبَ } ومعنى وصف ألسنتهم الكذب قولها للكذب صريحاً لا خفاء به.
وقال الزمخشري في الكشاف في تفسير قوله تعالى:
{ وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ ٱلْكَذِبَ } [النحل: 116] الآية ما نصه: فإن قلت: ما معنى وصف ألسنتهم الكذب؟ قلت: هو من فصيح الكلام وبليغه، جعل قولهم كأنه عين الكذب ومحضه. فإذا نطقت به ألسنتهم فقد حلت الكذب بحليته، وصورته بصورته. كقولهم: وجهها يصف الجمال، وعينها تصف السحر اهـ.
قوله تعالى: { لاَ جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ ٱلْنَّارَ وَأَنَّهُمْ مُّفْرَطُونَ }.
في هذا الحرف قراءتان سبعيتان، وقراءة غير سبعية. قرأه عامة السبعة ما عدى نافعاً { مُفْرَطُون } بسكون الفاء وفتح الراء بصيغة اسم المفعول. من أفرطه. وقرأ نافع بكسر الراء بصيغة اسم الفاعل. من أفرط. والقراءة التي ليست بسبعية بفتح الفاء وكسر الراء المشددة بصيغة اسم الفاعل من فرط المضعف، وتروى هذه القراءة عن أبي جعفر. وكل هذه القراءات له مصداق في كتاب الله.
أما على قراءة الجمهور { مفرطون } بصيغة المفعول فهو اسم مفعول أفرطه: إذا نسيه وتركه غير ملتفت إليه. فقوله: { مفرطون } أي متروكون منسيون في النار. ويشهد لهذا المعنى قوله تعالى:
{ فَٱلْيَوْمَ نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُواْ لِقَآءَ يَوْمِهِمْ هَـٰذَا } [الأعراف: 51]، وقوله: { فَذُوقُواْ بِمَا نَسِيتُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هَـٰذَآ إِنَّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُـواْ عَذَابَ ٱلْخُلْدِ } [السجدة: 14] الآية، وقوله: { { وَقِيلَ ٱلْيَوْمَ نَنسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هَـٰذَا وَمَأْوَاكُمُ ٱلنَّارُ } [الجاثية: 34]، فالنسيان في هذه الآيات معناه: الترك في النار. أما النسيان بمعنى زوال العلم: فهو مستحيل على الله. كما قال تعالى: { { وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً } [مريم: 64]، وقال: { قَالَ عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لاَّ يَضِلُّ رَبِّي وَلاَ يَنسَى } [طه: 52].
وممن قال بأن معنى { مفرطون } منسيون متركون في النار: مجاهد، وسعيد بن جبير، وقتادة وابن الأعرابي، وأبو عبيدة، والفراء، وغيرهم.
وقال بعض العلماء: معنى قوله { مفرطون } على قراءة الجمهور: أي مقدمون إلى النار معجلون. من أفرطت فلاناً وفرطته في طلب الماء: إذا قدمته، ومنه حديث: "أنا فرطكم على الحوض" أي متقدمكم. ومنه قول القطامي:

فاستعجلونا وكانوا من صحابتنا كما تقدم فراط لوراد

قول الشنفرى:

هممت وهمت فابتدرنا وأسبلت وشمر مني فارط متمهل

أي متقدم إلى الماء. وعلى قراءة نافع فهو اسم فاعل أفرط في الأمر: إذا أسرف فيه وجاوز الحد. ويشهد لهذه القراءة قوله: { وَأَنَّ ٱلْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ ٱلنَّارِ } [غافر: 43] ونحوها من الآيات. وعلى قراءة أبي جعفر، فهو اسم فاعل، فرط في الأمر: إذا ضيعه وقصر فيه، ويشهد لهذا المعنى قوله تعالى: { { أَن تَقُولَ نَفْسٌ يٰحَسْرَتَا عَلَىٰ مَا فَرَّطَتُ فِي جَنبِ ٱللَّهِ } [الزمر: 56] الآية. فقد عرفت أوجه القراءات في الآية، وما يشهد له القرآن منها.
وقوله: { لاَ جَرَمَ } أي حقاً أن لهم النار. وقال القرطبي في تفسيره: لا رد لكلامهم (وتم الكلام) أي ليس كما تزعمون! جرم أن لهم النار! حقاً أن لهم النار!وقال بعض العلماء: "لا"صله، و"جرم" بمعنى كسب. أي كسب لهم عملهم أن لهم النار.