خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَإِنَّ لَكُمْ فِي ٱلأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُمْ مِّمَّا فِي بُطُونِهِ مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَّبَناً خَالِصاً سَآئِغاً لِلشَّارِبِينَ
٦٦
-النحل

أضواء البيان في تفسير القرآن

قوله تعالى: { وَإِنَّ لَكُمْ فِي ٱلأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُمْ مِّمَّا فِي بُطُونِهِ } الآية.
بين جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن في الأنعام عبرة دالة على تفرد من خلقها، وأخلص لبنها من بين فرث ودم- بأنه هو وحده المستحق لأن يعبد، ويطاع ولا يعصى. وأوضح هذا المعنى أيضاً في غير هذا الموضع. كقوله:
{ وَإِنَّ لَكُمْ فِي ٱلأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُمْ مِّمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فيِهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ } [المؤمنون: 21]، وقوله: { وَٱلأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ } [النحل: 5] وقوله: { أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا خَلَقْنَا لَهُم مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَآ أَنْعاماً فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلاَ يَشْكُرُونَ } [يس: 71-73]، وقوله: { { أَفَلاَ يَنظُرُونَ إِلَى ٱلإِبْلِ كَيْفَ خُلِقَتْ } [الغاشية: 17]، إلى غير ذلك من الآيات.
وقد دلت الآيات المذكورة على أن الأنعام يصح تذكيرها وتأنيثها. لأنه ذكرها هنا في قوله: { نُّسْقِيكُمْ مِّمَّا فِي بُطُونِهِ } وأنثها "في سورة (قد أفلح المؤمنون)" في قوله:
{ نُّسْقِيكُمْ مِّمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فيِهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ } [المؤمنون: 21] ومعلوم في العربية: أن أسماء الأجناس يجوز فيها التذكير نظراً إلى اللفظ، والتأنيث نظراً إلى معنى الجماعة الداخلة تحت اسم الجنس. وقد جاء في القرآن تذكير الأنعام وتأنيثها كما ذكرناه آنفاً. وجاء فيه تذكير النخل وتأنيثها. فالتذكير في قوله: { { كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ } [القمر: 20]. والتأنيث في قوله: { كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ } [الحاقة: 7]، ونحو ذلك, وجاء في القرآن تذكير السماء وتأنيثها. فالتذكير في قوله: { السَّمَآءُ مُنفَطِرٌ بِهِ } [المزمل: 18]. والتأنيث في قوله: { وَٱلسَّمَآءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ } [الذاريات: 47] الآية، ونحو ذلك من الآيات. وهذا معروف في العربية، ومن شواهده قول قيس بن الحصين الحارثي الأسدي وهو صغير في تذكير النعم:

في كل عام نعم تحوونهيلقحه قوم وتنتجونه

وقرأ هذا الحرف نافع وابن عامر وشعبة عن عاصم "نسقيكم" بفتح النون. والباقون بضمها، كما تقدم بشواهده "في سورة الحجر".
مسائل
تتعلق بهذه الآية الكريمة:
المسألة الأولى - استنبط القاضي إسماعيل من تذكير الضمير في قوله: { مِّمَّا فِي بُطُونِهِ }: أن لبن الفحل يفيد التحريم. وقال: إنما جيء به مذكراً لأنه راجع إلى ذكر النعم. لأن اللبن للذكر محسوب، ولذلك
"قضى النَّبي صلى الله عليه وسلم أن لبن الفحل يحرم" حيث أنكرته عائشة في حديث أفلح أخي أبي القعيس، فللمرأة السقي، وللرجل اللقاح. فجرى الاشتراك فيه بينهما اهـ. بواسطة نقل القرطبي.
قال مقيده عفا الله عنه: أما اعتبار لبن الفحل في التحريم فلا شك فيه، ويدل له الحديث المذكور في قصة عائشة مع أفلح أخي أبي القعيس. فإنه متفق عليه مشهور. وأما استنباط ذلك من عود الضمير في الآية فلا يخلو عندي من بعد وتعسف. والعلم عند الله تعالى.
المسألة الثانية - استنبط النقاش وغيره من هذه الآية الكريمة: أن المني ليس بنجس، قالوا: كما يخرج اللبن من بين الفرث والدم سائغاً خالصاً، كذلك يجوز أن يخرج المني من مخرج البول طاهراً.
قال ابن العربي: إن هذا لجهل عظيم، وأخذ شنيع! اللبن جاء الخبر عنه مجيء النعمة والمنة الصادرة عن القدرة، ليكون عبرة. فاقتضى ذلك كله وصف الخلوص واللذة. وليس المني من هذه الحالة حتّى يكون ملحقاً به، أو مقيساً عليه.
قال القرطبي بعد أن نقل الكلام المذكور: قلت: قد يعارض هذا بأن يقال: وأي منة أعظم وأرفع من خروج المني الذي يكون عنه الإنسان المكرم؟ وقد قال تعالى:
{ يَخْرُجُ مِن بَيْنِ ٱلصُّلْبِ وَٱلتَّرَآئِبِ } [الطارق: 7] وقال: { وَٱللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِّنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً } [النحل: 72] وهذا غاية في الامتنان.
فإن قيل: إنه يتنجس بخروجه في مجرى البول.
قلنا: هو ما أردناه. فالنجاسة عارضة وأصله طاهر اهـ محل الغرض من كلام القرطبي.
قال مقيدة عفا الله عنه: وأخذ حكم طهارة المني من هذه الآية الكريمة لا يخلو عندي من بعد. وسنبين إن شاء الله حكم المني: هل هو نجس أو طاهر، وأقوال العلماء في ذلك، مع مناقشة الأدلة. اعلم - أن في مني الإنسان ثلاثة أقوال للعلماء: الأول - أنه طاهر، وأن حكمه حكم النخامة والمخاط. وهذا هو مذهب الشافعي، وأصح الروايتين عن أحمد، وبه قال سعيد بن المسيب، وعطاء، وإسحاق بن راهويه، وأبو ثور، وداود، وابن المنذر، وحكاه العبدري وغيره عن سعد بن أبي وقاص، وابن عمر، وعائشة رضي الله عنهم. كما نقله النووي في "شرح المهذب" وغيره.
القول الثاني - أنه نجس، ولا بد في طهارته من الماء سواء كان يابساً أو رطباً. وهذا هو مذهب مالك، والثوري والأوزاعي.
القول الثالث - أنه نجس، ورطبه لا بد له من الماء، ويابسه لا يحتاج إلى الماء بل يطهر بفركه من الثوب حتّى يزول منه. وهذا هو مذهب أبي حنيفة. واختار الشوكاني في (نيل الأوطار): أنه نجس، وأن إزالته لا تتوقف على الماء مطلقاً.
أما حجة من قال إنه طاهر كالمخاط فهي بالنص والقياس معاً، ومعلوم في الأصول: أن القياس الموافق للنص لا مانع منه، لأنه دليل آخر عاضد للنص، ولا مانع من تعاضد الأدلة.
أما النص فهو ما ثبت عن عائشة رضي الله عنها قالت: "كنت أفرك المني من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثمَّ يذهب فيصلي فيه". أخرجه مسلم في صحيحه، وأصحاب السنن الأربعة والإمام أحمد. قالوا: فركها له يابساً، وصلاته في الثوب من غير ذكر غسل - دليل على الطهارة. وفي رواية عند أحمد: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسلت المني من ثوبه بعرق الإذخر، ثم يصلي فيه، ويحته من ثوبه يابساً ثم يصلي فيه. وفي رواية عن عائشة عند الدارقطني: "كنت أفرك المني من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان يابساً، وأغسله إذا كان رطباً" وعن إسحاق بن يوسف قال: حدثنا شريك، عن محمد بن عبد الرحمن، عن عطاء،
"عن ابن عباس قال: سئل النَّبي صلى الله عليه وسلم عن المني يصيب الثوب فقال: إنما هو بمنزلة المخاط والبصاق، وإنما يكفيك أن تمسحه بخرقة أو بإذخرة" .
قال صاحب (منتقى الأخبار) بعد أن ساق هذا الحديث كما ذكرنا: رواه الدارقطني وقال: لم يرفعه غير إسحاق الأزرق عن شريك. قلت: وهذا لا يضر. لأن إسحاق إمام مخرج عنه في الصحيحين، فيقبل رفعه وزيادته.
قال مقيده عفا الله عنه: ما قاله الإمام المجدرحمه الله (في المنتقى) من قبول رفع العدل وزيادته، هو الصحيح عند أهل الأصول وأهل الحديث كما بيناه مراراً، إلى غير ذلك من الأحاديث في فرك المني وعدم الأمر بغسله.
وأما القياس العاضد للنص فهو من وجهين: أحدهما - إلحاق المني بالبيض. بجامع أن كلاً منهما مائع يتخلق منه حيوان حي طاهر، والبيض طاهر إجماعاً. فيلزم كون المني طاهراً أيضاً.
قال مقيده عفا الله عنه: هذا النوع من القياس هو المعروف بالقياس الصوري، وجمهور العلماء لا يقبلونه، ولم يشتهر بالقول به إلا إسماعيل بن علية. كما أشار له في مراقي السعود بقوله:

وابن علية يرى للصوري كالقيس للخيل على الحمير

وصور القياس الصوري المختلف فيها كثيرة. كقياس الخيل على الحمير في سقوط الزكاة، وحرمة الأكل للشبه الصوري. وكقياس المني على البيض لتولد الحيوان الطاهر من كل منهما في طهارته. وكقياس أحد التشهدين على الآخر في الوجوب أو الندب لتشابههما في الصورة. وكقياس الجلسة الأولى على الثانية في الوجوب لتشبهها بها في الصورة. وكإلحاق الهرة الوحشية بالإنسية في التحريم. وكإلحاق خنزير البحروكلبه بخنزير البر وكلبه، إلى غير ذلك من صوره الكثيرة المعروفة في الأصول. واستدل من قال بالقياس الصوري - بأن النصوص دلت على اعتبار المشابهة في الصورة في الأحكام. كقوله: { فَجَزَآءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ ٱلنَّعَمِ } [المائدة: 95]. والمراد المشابهة في الصورة على قول الجمهور. وكبدل القرض فإنه يرد مثله في الصورة. وقد استسلف صلى الله عليه وسلم بكراً ورد رباعياً كما هو ثابت في الصحيح. وكسروره صلى الله عليه وسلم بقول القائف المدلجي في زيد بن حارثة وابنه أسامة: هذه الأقدام بعضها من بعض. لأن القيافة قياس صوري، لأن اعتماد القائف على المشابهة في الصورة.
الوجه الثاني من وجهي القياس المذكور - إلحاق المني بالطين، بجامع أن كلاً منهما مبتدأ خلق بشر. كما قال تعالى:
{ وَلَقَدْ خَلَقْنَا ٱلإِنْسَانَ مِن سُلاَلَةٍ مِّن طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً } [المؤمنون: 12-13] الآية.
فإن قيل: هذا القياس يلزمه طهارة العلقة، وهي الدم الجامد. لأنها أيضاً مبتدأ خلق بشر. لقوله تعالى:
{ { ثُمَّ خَلَقْنَا ٱلنُّطْفَةَ عَلَقَةً } [المؤمنون: 14] والدم نجس بلا خلاف.
فالجواب - أن قياس الدم على الطين في الطهارة فاسد الاعتبار، لوجود النص بنجاسة الدم. أما قياس المني على الطين فليس بفاسد الاعتبار لعدم ورود النص بنجاسة المني.
وأما حجة من قال بأن المني نجس فهو بالنص والقياس أيضاً. أما النص فهو ما ثبت عن عائشة رضي الله عنها قالت: "كنت أغسل المني من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثمَّ يخرج إلى الصَّلاة وأثر الغسل في ثوبه بقع الماء". متفق عليه. قالوا: غسلها له دليل على أنه نجس. وفي رواية عند مسلم
"عن عائشة بلفظ: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يغسل المني ثم يخرج إلى الصَّلاة في ذلك الثوب وأنا أنظر إلى أثر الغسل فيه" .
قال مقيده عفا الله عنه: وهذه الرواية الثابتة في صحيح مسلم تقوي حجة من يقول بالنجاسة. لأن المقرر في الأصول: أن الفعل المضارع بعد لفظة "كان" يدل على المداومة على ذلك الفعل، فقول عائشة في رواية مسلم هذه: "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يغسل" تدل على كثرة وقوع ذلك منه، ومداومته عليه، وذلك يشعر بتحتم الغسل. وفي رواية عن عائشة في صحيح مسلم أيضاً: أن رجلاً نزل بها فأصبح يغسل ثوبه. فقالت عائشة: إنما كان يجزئك إن رأيته أن تغسل مكانه. فإن لم تر، نضحت حوله، ولقد رأيتني أفركه من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم فركاً فيصلِّي فيه. اهـ
قالوا: هذه الرواية الثابته في الصحيح عن عائشة صرحت فيها: بأنه إنما يجزئه غسل مكانه. وقد تقرر في الأصول (في مبحث دليل الخطاب) وفي المعاني (في مبحث القصر): أن "إنما" من أدوات الحصر. فعائشة صرحت بحصر الإجزاء في الغسل. فدل ذلك على أن الفرك لا يجزىء دون الغسل، إلى غير ذلك من الأحاديث الدلة على غسله.
وأما القياس - فقياسهم المني على البول والحيض، قالوا ولأنه يخرج من مخرج البول، ولأن المذي جزء من المني. لأن الشهوة تحلل كل واحد منهما فاشتركا في النجاسة.
وأما حجة من قال: أنه نجس، وإن يابسه يطهر بالفرك ولا يحتاج إلى الغسل فهي ظواهر نصوص تدل على ذلك، ومن أوضحها في ذلك حديث عائشة عند الدار قطني الذي قدمناه آنفاً: "كنت أفرك المني من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان يابساً، وأغسله إذا كان رطباً".
وقال المجد (في منتقى الأخبار) بعد أن ساق هذه الرواية ما نصه: قلت: فقد بان من مجموع النصوص جواز الأمرين.
قال: مقيده عفا الله عنه: إيضاح الاستدلال بهذا الحديث لهذا القول: أن الحرص على إزالة المني بالكلية دليل على نجاسته، والاكتفاء بالفرك في يابسه يدل على أنه لا يحتاج إلى الماء. ولا غرابة في طهارة متنجس بغير الماء. فإن ما يصيب الخفاف والنعال من النجاسات المجمع على نجاستها يطهر بالدلك حتى تزول عينه، ومن هذا القبيل قول الشوكاني: إنه يطهر مطلقاً بالإزالة دون الغسل، لما جاء في بعض الروايات من سلت رطبه بإذخرة ونحوها. ورد من قال: إن المني طاهر احتجاج القائلين بنجاسته، بأن الغسل لا يدل على نجاسة الشيء، فلا ملازمة بين الغسل والتنجيس لجواز غسل الطاهرات كالتراب والطين ونحوه يصيب البدن أو الثوب. قالوا: ولم يثبت نقل بالأمر بغسله، ومطلق الفعل لا يدل على شيء زائد على الجواز.
قال ابن حجر (في التلخيص): وقد ورد الأمر بفركه من طريق صحيحة، رواه ابن الجارود (في المنتقى) عن محسن بن يحيى، عن أبي حذيفة عن سفيان، عن منصور، عن ابراهيم، عن همام بن الحارث قال: كان عند عائشة ضيف فأجنب، فجعل يغسل ما أصابه. فقالت عائشة: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا بحته - إلى أن قال: وأما الأمر بغسله فلا أصل له.
وأجابوا عن قول عائشة: "إنما يجزئك أن تغسل مكانه" لحمله على الاستحباب، لأنها احتجت بالفرك. قالوا: فلو وجب الغسل لكان كلامها حجة عليها لا لها، وإنما أرادت الإنكار عليه في غسل كل الثوب فقالت: "غسل كل الثوب بدعة منكرة، وإنما يجزئك في تحصيل الأفضل والأكمل أن تغسل مكانه..." الخ.
وأجابوا عن قياس المني على البول والدم بأن المني أصل الآدمي المكرم فهو بالطين أشبه، بخلاف البول والدم.
وأجابوا عن خروجه من مخرج البول بالمنع، قالوا: بل مخرجهما مختلف، وقد شق ذكر رجل بالروم، فوجد كذلك، لا ننجسه بالشك. قالوا: ولو ثبت أنه يخرج من مخرج البول لم يلزم منه النجاسة. لأن ملاقاة النجاسة في الباطن لا تؤثر، وإنما تؤثر ملاقاتها في الظاهر.
وأجابوا عن دعوى أن المذي جزء من المني بالمنع أيضاً قالوا: بل هو مخالف له في الاسم والخلقة وكيفية الخروج. لأن النفس والذكر يفتران بخروج المني، وأما المذي فعكسه، ولهذا من به سلس المذي لا يخرج منه شيء من المذي. وهذه المسألة فيها للعلماء مناقشات كثيرة، كثير منها لا طائل تحته. وهذا الذي ذكرنا فيها هو خلاصة أقوال العلماء وحججهم.
قال مقيده عفا الله عنه: أظهر الأقوال دليلاً في هذه المسألة عندي والله أعلم -
"أن المني طاهر. لما قدمنا من حديث إسحاق الأزرق، عن شريك عن محمد بن عبد الرحمن، عن عطاء، عن ابن عباس: أن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: إنما هو بمنزلة المخاط والبصاق، وإنما يكفيك أن تمسحه بخرقة أو بإذخرة" . وهذا نص في محل النزاع.
وقد قدمنا عن صاحب (المنتقى) أن الدارقطني قال: لم يرفعه غير إسحاق الأزرق عن شريك، وأنه هو قال: قلت: وهذا لا يضر لأن إسحاق إمام مخرج عنه في الصحيحين، فيقبل رفعه وزيادته.انتهى.
وقد قدمنا مراراً:أن هذا هو الحق. فلو جاء الحديث موقوفاً من طريق، وجاء مرفوعاً من طريق أخرى صحيحة حكم برفعه. لأن الرفع زيادة، وزيادات العدول مقبولة، قال في مراقي السعود:-

والرفع والوصل وزيد اللفظ مقبوله عند إمام الحفظ - إلخ

وبه تعلم صحة الاحتجاج برواية إسحاق المذكور المرفوعة، ولا سيما أن لها شاهداً من طريق أخرى.
قال ابن حجر (في التلخيص) ما نصه: فائدة: -
روى الدارقطني، والبيهقي من طريق إسحاق الأزرق، عن شريك، عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن عطاء، عن ابن عباس، قال: سئل النَّبي صلى الله عليه وسلم عن المني يصيب الثوب؟ قال:
" إنما هو بمنزلة المخاط والبصاق - وقال - إنما يكفيك أن تمسحه بخرقة وإذخرة" ورواه الطحاوي من حديث حبيب بن أبي عمرة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس مرفوعاً، ورواه هو البيهقي من طريق عطاء عن ابن عباس موقوفاً، قال البيهقي: الموقوف هو الصحيح انتهى.
فقد رأيت الطريق الأخرى المرفوعة من حديث حبيب بن أبي عمرة، عن سعيد عن ابن عباس، وهي مقوية لطريق إسحاق الأزرق المتقدمة.
واعلم أن قول البيهقيرحمه الله : والموقوف هو الصحيح لا يسقط به الاحتجاج بالرواية المرفوعة. لأنه يرى أن وقف الحديث من تلك الطريق علة في الطريق المرفوعة. وهذا قول معروف لبعض العلماء من أهل الحديث والأصول، ولكن الحق: أن الرفع زيادة مقبولة من العدل، وبه تعلم صحة الاحتجاج بالرواية المرفوعة عن ابن عباس في طهارة المني، وهي نص صريح في محل النزاع، ولم يثبت في نصوص الشرع شيء يصرح بنجاسة المني.
فإن قيل: أخرج البزار، وأبو يعلى الموصلي في مسنديهما، وابن عدي في الكامل، والدارالقطني والبيهقي والعقيلي في الضعفاء، وأبو نعيم في المعرفة من حديث
"عمار بن ياسر رضي الله عنهما: أن النَّبي صلى الله عليه وسلم مر بعمار فذكر قصة، وفيها: إنما تغسل ثوبك من الغائط والبول والمني والدم والقيء يا عمار. ما نخامتك ودموع عينيك والماء الذي في ركوتك إلا سواء" .
فالجواب - أن في إسناده ثابت بن حماد، عن علي بن زيد بن جدعان، وضعفه الجماعة المذكورون كلهم إلا أبا يعلى بثابت بن حماد، واتهمه بعضهم بالوضع. وقال اللالكائي: أجمعوا على ترك حديثه وقال البزار: لا نعلم لثابت إلا هذا الحديث. وقال الطبراني: تفرد به ثابت بن حماد، ولا يروى عن عمار إلا بهذا الإسناد. وقال البيهقي: هذا حديث باطل، إنما رواه ثابت بن حماد وهو متهم بالوضع. قاله ابن حجر في (التلخيص). ثم قال: قلت ورواه البزار، والطبراني من طريق ابراهيم بن زكريا العجلي، عن حماد بن سلمة، عن علي بن زيد، لكن إبراهيم ضعيف، وقد غلط فيه، إنما يرويه ثابت بن حماد. انتهى.
وبهذا تعلم أن هذا الحديث لا يصح الاحتجاج به على نجاسة المني والعلم عند الله تعالى.
المسألة الثالثة - قال القرطبي: في هذه الآية دليل على جواز الانتفاع بالألبان من الشرب وغيره. فأما لبن الميتة فلا يجوز الانتفاع به. لأنه مائع طاهر حصل في وعاء نجس. وذلك أن ضرع الميتة نجس، واللبن طاهر. فإذا حلب صار مأخوذاً من وعاء نجس. فأما لبن المرأة الميتة فاختلف أصحابنا فيه، فمن قال: إن الإنسان طاهر حياً وميتاً فهو طاهر. ومن قال: ينجس بالموت فهو نجس. وعلى القولين جميعاً تثبت الحرمة. لأن الصبي قد يتغذى به كما يتغذى من الحية. وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
"الرضاع ما أنبت اللحم وأنشز العظم" ولم يخص - انتهى كلام القرطبي.