خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

إِنَّ ٱللَّهَ يَأْمُرُ بِٱلْعَدْلِ وَٱلإحْسَانِ وَإِيتَآءِ ذِي ٱلْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ ٱلْفَحْشَاءِ وَٱلْمُنْكَرِ وَٱلْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ
٩٠
-النحل

أضواء البيان في تفسير القرآن

ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أنه يأمر خلقه بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى. وأنه ينهاهم عن الفحشاء والمنكر والبغي. لأجل أن يتَّعظوا بأوامره ونواهيه، فيمتثلوا أمره، ويجتنبوا نهيه. وحذف مفعول "يأمر"، "وينهى" لقصد التعميم.
ومن الآيات التي أمر فيها بالعدل قوله تعالى:
{ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىۤ أَلاَّ تَعْدِلُواْ ٱعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ } [المائدة: 8]، وقوله: { إِنَّ ٱللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ ٱلأَمَانَاتِ إِلَىۤ أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ ٱلنَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِٱلْعَدْلِ إِنَّ ٱللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ } [النساء: 58].
ومن الآيات التي أمر فيها بالإحسان قوله تعالى:
{ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى ٱلتَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوۤاْ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُحْسِنِينَ } [البقرة: 195]، وقوله: { وَبِٱلْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً } [البقرة: 83]، وقوله: { وَأَحْسِن كَمَآ أَحْسَنَ ٱللَّهُ إِلَيْكَ وَلاَ تَبْغِ ٱلْفَسَادَ فِي ٱلأَرْضِ } [القصص: 77]، وقوله: { وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً } [البقرة: 83] وقوله: { مَا عَلَى ٱلْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ } [التوبة: 91].
ومن الآيات التي أمر فيها بإيتاء ذي القربي قوله تعالى:
{ فَآتِ ذَا ٱلْقُرْبَىٰ حَقَّهُ وَٱلْمِسْكِينَ وَٱبْنَ ٱلسَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ ٱللَّهِ وَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ } [الروم: 38]، وقوله { وَآتِ ذَا ٱلْقُرْبَىٰ حَقَّهُ وَٱلْمِسْكِينَ وَٱبْنَ ٱلسَّبِيلِ وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيراً } [الإسراء: 26] وقوله: { وَآتَى ٱلْمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِ ذَوِي ٱلْقُرْبَىٰ } [البقرة: 177] الآية، وقوله: { أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ } [البلد: 14-15]، إلى غير ذلك من الآيات.
ومن الآيات التي نهى فيها عن الفحشاء والمنكر والبغي قوله:
{ وَلاَ تَقْرَبُواْ ٱلْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ } [الأنعام: 151] الآية، وقوله: { قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ ٱلْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَٱلإِثْمَ وَٱلْبَغْيَ بِغَيْرِ ٱلْحَقِّ } [الأعراف: 33] الآية، وقوله: { وَذَرُواْ ظَاهِرَ ٱلإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَكْسِبُونَ ٱلإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُواْ يَقْتَرِفُونَ } [الأنعام: 120] والمنكر وإن لم يصرح باسمه في هذه الآيات، فهو داخل فيها.
ومن الآيات التي جمع فيها بين الأمر بالعدل والتفضل بالإحسان قوله:
{ وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ } [النحل: 126] فهذا عدل، ثم دعا إلى الإحسان بقوله: { وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ } [النحل: 126] وقوله { وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا } [الشورى: 40] فهذا عدل. ثم دعا إلى الإحسان بقوله { فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى ٱللَّهِ } [الشورى: 40].
وقوله:
{ وَٱلْجُرُوحَ قِصَاصٌ } [المائدة: 45] فهذا عدل. ثم دعا إلى الإحسان بقوله { فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ } [المائدة: 45]، وقوله { وَلَمَنِ ٱنتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَـٰئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِّن سَبِيلٍ } [الشورى: 41] الآية، فهذا عدل. ثم دعا إلى الإحسان بقوله: { وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ ٱلأُمُورِ } [الشورى: 43]، وقوله { لاَّ يُحِبُّ ٱللَّهُ ٱلْجَهْرَ بِٱلسُّوۤءِ مِنَ ٱلْقَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ } [النساء: 148] فهذا عدل. ثم دعا إلى الإحسان بقوله: { إِن تُبْدُواْ خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُواْ عَن سُوۤءٍ فَإِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَفُوّاً قَدِيراً } [النساء: 149] إلى غير ذلك من الآيات.
فإذا عرفت هذا، فاعلم أن العدل في اللغة: القسط والإنصاف، وعدم الجور. وأصله التوسط بين المرتبتين. أي الإفراط والتفريط. فمن جانب الإفراط والتفريط فقد عدل. والإحسان مصدر أحسن، وهي تستعمل متعدية بالحرف نحو: أحسن إلى والديك. ومنه قوله تعالى عن يوسف:
{ وَقَدْ أَحْسَنَ بَيۤ إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ ٱلسِّجْنِ } [يوسف: 10] الآية. وتستعمل متعدية بنفسها. كقولك: أحسن العامل عمله، أي اجاده وجاء به حسناً. والله جل وعلا يأمر بالإحسان بمعنييه المذكورين، فهما داخلان في الآية الكريمة، لأن الإحسان إلى عباد الله لوجه الله عمل أحسن فيه صاحبه. وقد فسر النَّبي صلى الله عليه وسلم الإحسان في حديث جبريل بقوله: "أن تعبد الله كأنك تراه. فإن لم تكن تراه فإنه يراك" . وقد قدمنا ذلك (في سورة هود).
فإذا عرفت هذا، فاعلم أن أقوال المفسرين في الآية الكريمة راجعة في الجملة إلى ما ذكرنا. كقول ابن عباس: العدل: لا إله إلا الله، والإحسان: أداء الفرائض. لأن عبادة الخالق دون المخلوق هي عين الإنصاف والقسط، وتجنب التفريط والإفراط. ومن أدى فرائض الله على الوجه الأكمل فقد أحسن. ولذا قال النَّبي صلى الله عليه وسلم في الرجل الذي حلف لا يزيد على الواجبات:
"أفلح إن صدق" . وكقول سفيان: العدل: استواء العلانية والسريرة. والإحسان: أن تكون السريرة أفضل من العلانية. وكقول علي رضي الله عنه: العدل:الإنصاف. والإحسان: التفضل. إلى غير ذلك من أقوال السلف. والعلم عند الله تعالى:
وقوله { يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ }.
الوعظ: الكلام الذي تلين له القلوب.
تنبيه
فإن قيل: يكثر في القرآن إطلاق الوعظ على الأوامر والنواهي. كقوله هنا { يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } مع أنه ما ذكر إل االأمر والنهي في قوله { إِنَّ ٱللَّهَ يَأْمُرُ بِٱلْعَدْلِ } [النحل: 90] إلى قوله { وَيَنْهَىٰ عَنِ ٱلْفَحْشَاءِ }[النحل:90] الآية، وكقوله في (سورة البقرة) بعد أن ذكر أحكام الطلاق والرجعة:
{ ذٰلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ مِنكُمْ يُؤْمِنُ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ } [البقرة: 232]، وقوله (في الطلاق) في نحو ذلك أيضاً: { ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ يُؤْمِنُ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ } [الطلاق: 2]. وقوله في النهي عن مثل قذف عائشة: { يَعِظُكُمُ ٱللَّهُ أَن تَعُودُواْ لِمِثْلِهِ أَبَداً } [النور: 17] الآية. مع أن المعروف عند الناس: أن الوعظ يكون بالترغيب والترهيب ونحو ذلك، لا بالأمر والنهي.
فالجواب - أن ضابط الوعظ: هو الكلام الذي تلين له القلوب وأعظم ما تلين له قلوب العقلاء أوامر ربهم ونواهيه. فإنهم إذا سمعوا الأمر خافوا من سخط الله في عدم امتثاله، وطمعوا فيما عند الله من الثواب في امتثاله. وإذا سمعوا النهي خافوا من سخط الله في عدم اجتنابه، وطمعوا فيما عنده من الثواب في اجتنابه. فحداهم حادي الخوف والطمع إلى الامتثال، فلانت قلوبهم للطاعة خوفاً وطمعاً. والفحشاء في لغة العرب: الخصلة المتناهية في القبح. ومنه قيل لشديد البخل: فاحش. كما في قول طرفة في معلقته:

أرى الموت يعتام الكرام ويصطفي عقيلة مال الفاحش المتشدد

والمنكر اسم مفعول أنكر. وهو في الشرع: ما أنكره الشرع ونهى عنه وأوعد فاعله العقاب. والبغي: الظلم. وقد بين تعالى: أن الباغي يرجع ضرر بغيه على نفسه في قوله: { يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ } [يونس: 23]، وقوله: { وَلاَ يَحِيقُ ٱلْمَكْرُ ٱلسَّيِّىءُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ } [فاطر: 43].
وقوله: { ذِي ٱلْقُرْبَىٰ }.
أي صاحب القرابة من جهة الأب أو الأم، أو هما معاً. لأن إيتاء ذي القربى صدقة وصلة رحم. والإيتاء: الإعطاء. وأحد المفعولين محذوف. لأن المصدر أضيف إلى المفعول الأول وحذف الثاني. والأصل وإيتاء صاحب القرابة. كقوله:
{ وَآتَى ٱلْمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِ ذَوِي ٱلْقُرْبَىٰ } [البقرة: 177] الآية.