علم الله جل وعلا عباده في أول هذه السورة الكريمة أن يحمدوه على أعظم نعمة أنعمها عليهم. وهي إنزاله على نبينا صلى الله عليه وسلم هذا القرآن العظيم، الذي لا اعوجاج فيه. بل هو في كمال الاستقامة. أخرجهم به من الظلمات إلى النور. وبين لهم فيه من العقائد، والحلال والحرام، وأسباب دخول الجنة والنار، وحذرهم فيه من كل ما يضرهم، وحضهم فيه على كل ما ينفعهم، فهو النعمة العظمى على الخلق، ولذا علمهم ربهم كيف يحمدونه على هذه النعمة الكبرى بقوله: { ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ ٱلَّذِي أَنْزَلَ عَلَىٰ عَبْدِهِ ٱلْكِتَابَ } الآية.
وما أشار له هنا من عظيم الإنعام والامتنان على خلقه بإنزال هذا القرآن العظيم، منذراً من لم يعمل به، ومبشراً من عمل به - ذكره جل وعلا في مواضع كثيرة، كقوله: { يَا أَيُّهَا ٱلنَّاسُ قَدْ جَآءَكُمْ بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَآ إِلَيْكُمْ نُوراً مُّبِيناً فَأَمَّا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ بِٱللَّهِ وَٱعْتَصَمُواْ بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مَّنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً } [النساء: 174-175]، وقوله: { أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّآ أَنزَلْنَا عَلَيْكَ ٱلْكِتَابَ يُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذٰلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَىٰ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } [العنكبوت: 51]، وقوله: { إِنَّ هَـٰذَا ٱلْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَىٰ بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ ٱلَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤمِنِينَ } [النمل: 76-77]، وقوله: { وَنُنَزِّلُ مِنَ ٱلْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَآءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ } [الإسراء: 82]، وقوله: { قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُواْ هُدًى وَشِفَآءٌ } [فصلت: 44] الآية، وقوله تعالى { إِنَّ فِي هَـٰذَا لَبَلاَغاً لِّقَوْمٍ عَابِدِينَ وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ } [الأنبياء: 106-107]، وقوله: { وَمَا كُنتَ تَرْجُوۤ أَن يُلْقَىٰ إِلَيْكَ ٱلْكِتَابُ إِلاَّ رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ } [القصص: 86] الآية، وقوله: { ثُمَّ أَوْرَثْنَا ٱلْكِتَابَ ٱلَّذِينَ ٱصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِٱلْخَيْرَاتِ بِإِذُنِ ٱللَّهِ ذَلِكَ هُوَ ٱلْفَضْلُ ٱلْكَبِيرُ } [فاطر: 32].
وهو تصريح منه جل وعلا بأن إيراث هذا الكتاب فضل كبير والآيات بمثل هذا كثيرة جداً.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: { وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا } أي لم يجعل في القرآن عوجاً. أي لا اعوجاج فيه ألبته، لا من جهة الألفاظ، ولا من جهة المعاني. أخباره كلها صدق، وأحكامه عدل، سالم من جميع العيوب في ألفاظه ومعانيه، وأخباره وأحكامه. لأن قوله "عوجا" نكرة في سياق النفي. فهي تعم نفي جميع أنواع العوج.
وما ذكره جل وعلا هنا من أنه لا اعوجاج فيه - بينه في مواضع أخر كثيرة كقوله: { وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَـٰذَا ٱلْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ قُرْآناً عَرَبِيّاً غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } [الزمر: 27-28]، وقوله: { وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لاَّ مُبَدِّلِ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ } [الأنعام: 115]. فقوله "صدقاً" أي في الأخبار، وقوله "عدلاً" أي في الأحكام وكقوله تعالى: { أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ ٱلْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ ٱللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ ٱخْتِلاَفاً كَثِيراً } [النساء: 82]. والآيات بمثل ذلك كثيرة جداً.
وقوله في هذه الآية الكريمة: { قَيِّماً } أي مستقيماً لا ميل فيه ولا زيغ. وما ذكره هنا من كونه { قَيَّماً } لا ميل فيه ولا زيغ - بينه أيضاً في مواضع أخر، كقوله { لَمْ يَكُنِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ وَٱلْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّىٰ تَأْتِيَهُمُ ٱلْبَيِّنَةُ رَسُولٌ مِّنَ ٱللَّهِ يَتْلُو صُحُفاً مُّطَهَّرَةً فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ } [البينة: 1-3]، وقوله تعالى: { إِنَّ هَـٰذَا ٱلْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ } [الإسراء: 9] الآية، وقوله: { وَمَا كَانَ هَـٰذَا ٱلْقُرْآنُ أَن يُفْتَرَىٰ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَلَـٰكِن تَصْدِيقَ ٱلَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ ٱلْكِتَابِ لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ ٱلْعَالَمِينَ } [يونس: 37]. وقوله تعالى: { مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَىٰ وَلَـٰكِن تَصْدِيقَ ٱلَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } [يوسف: 111] وقوله { الۤمۤ ذَلِكَ ٱلْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ } [البقرة: 1-2]، وقوله { الۤر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ } [هود: 1] وقوله: { وَلَـٰكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشَآءُ مِنْ عِبَادِنَا } [الشورى: 52] إلى غير ذلك من الآيات.
وهذا الذي فسرنا به قوله تعالى { قَيَّماً } هو قول الجمهور وهو الظاهر. وعليه فهو تأكيد في المعنى لقوله { وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا } لأنه قد يكون الشيء مستقيماً في الظاهر وهو لا يخلو من اعوجاج في حقيقة الأمر. ولذا جمع تعالى، بين نفي العوج وإثبات الاستقامة. وفي قوله "قيماً" وجهان آخران من التفسير:
الأول - أن معنى كونه "قيماً" أنه قيم على ما قبله من الكتب السماوية، أي مهيمن عليه وعلى هذا التفسير فالآية كقوله تعالى: { وَأَنزَلْنَآ إِلَيْكَ ٱلْكِتَابَ بِٱلْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ ٱلْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ } [المائدة: 84] الآية.
ولأجل هيمنته على ما قبله من الكتب قال تعالى: { إِنَّ هَـٰذَا ٱلْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَىٰ بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ ٱلَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } [النمل: 76] الآية. وقال { قُلْ فَأْتُواْ بِٱلتَّوْرَاةِ فَٱتْلُوهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } [آل عمران: 93] وقال { يَا أَهْلَ ٱلْكِتَابِ قَدْ جَآءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِّمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ ٱلْكِتَابِ } [المائدة: 15] الآية.
الوجه الثاني - أن معنى كونه "قيماً": أنه قيم بمصالح الخلق الدينية والدنيوية. وهذا الوجه في الحقيقية يستلزمه الوجه الأول.
واعلم أن علماء العربية اختلفوا في إعراب قوله "قَيِّماً" فذهب جماعة إلى أنه حال من الكتاب. وأن في الآية تقديماً وتأخيراً، وتقريره على هذا: أنزل على عبده الكتاب في حال كونه قيماً ولم يجعل له عوجاً. ومنع هذا الوجه من الإعراب الزمخشري في الكشاف قائلاً: إن قوله { وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا } [الكهف: 1]معطوف على صلة الموصول التي هي جملة { أَنْزَلَ عَلَىٰ عَبْدِهِ ٱلْكِتَابَ } [الكهف: 1] والمعطوف على الصلة داخل في حيز الصلة. فجعل "قَيِّماً" حال من "الكتاب" يؤدي إلى الفصل بين الحال وصاحبها ببعض الصلة، وذلك لا يجوز. وذهب جماعة آخرون إلى أن "قَيِّماً" حال من "الكتاب" وأن المحذور الذي ذكره الزمخشري منتف. وذلك أنهم قالوا: إن جملة { وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا } ليست معطوفه على الصلة، وإنما هي جملة حالية. وقوله "قَيِّماً" حال بعد حال، وتقريره: أن المعنى أنزل على عبده الكتاب في حال كونه غير جاعل فيه عوجاً، وفي حال كونه قيماً. وتعدد الحال لا إشكال فيه، والجمهور على جواز تعدد الحال مع اتحاد عامل الحال وصاحبها، كما أشار له في الخلاصة بقوله:
والحال قد يجيء ذا تعدد لمفرد فاعلم وغير مفرد
وسواء كان ذلك بعد العطف أو بدون عطف. فمثاله مع العطف: قوله تعالى: { أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَـىٰ مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِّنَ ٱللَّهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيّاً مِّنَ ٱلصَّالِحِينَ } [آل عمران: 39] ومثاله بدون عطف قوله تعالى: { وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَىٰ إِلَىٰ قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً } [الأعراف: 150] الآية. وقول الشاعر:
على إذا ما جئت ليلى بخفية زيارة بيت الله رجلان حافيا
ونقل عن أبي الحسن بن عصفور منع تعدد الحال ما لم يكن العامل فيه صيغة التفضيل في نحو قوله: هذا بسراً أطيب منه رطباً. ونقل منع ذلك أيضاً عن الفارسي وجماعة. وهؤلاء الذين يمنعون تعدد الحال يقولون: إن الحال الثانية إنما هي حال من الضمير المستكن في الحال الأولى. والأولى عندهم هي العامل في الثانية. فهي عندهم أحوال متداخلة، أو يجعلون الثانية نعتاً للأولى وممن اختار أن جملة { ولم يجعل } حالية، وأن { قّيِّماً } حال بعد حال الأصفهاني.
وذهب بعضهم إلى أن قوله { قَيِّماً } بدل من قوله { وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا } لأن انتفاء العوج عنه هو معنى كونه قيماً.
وعزا هذا القول الرازي وأبو حيان لصاحب حل العقد، وعليه فهو بدل مفرد من جملة.
كما قالوا: في عرفت زيداً أبو من. أنه بدل جملة من مفرد. وفي جواز ذلك خلاف عند علماء العربية.
وزعم قوم أن { قَيِّماً } حال من الضمير المجرور في قوله { وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا } واختار الزمخشري وغيره أن { قَيَّماً } منصوب بفعل محذوف، وتقديره: ولم يجعل له عوجاً وجعله قّيِّماً، وحذف ناصب الفضلة إذا دل عليه المقام جائز. كما قال في الخلاصة:
ويحذف الناصبها إن علما وقد يكون حذفه ملتزماً
وأقرب أوجه الإعراب في قوله "قَيِّماً" أنه منصوب بمحذوف، أو حال ثانية من "الكتاب" والله تعالى أعلم.
وقوله في هذه الآية الكريمة: { لِّيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً } اللام فيه متعلقة بـ { أَنْزَلَ } [الكهف:1] وقال الحوفي:
هي متعلقة بقوله { قَيِّماً } والأول هو الظاهر.
والإنذار: الإعلام المقترن بتخويف وتهديد. فكل إنذار إعلام، وليس كل إعلام إنذاراً. والإنذار يتعدى إلى مفعولين، كما في قوله تعالى: { فَأَنذَرْتُكُمْ نَاراً تَلَظَّىٰ } [الليل: 14]، وقوله { إِنَّآ أَنذَرْنَاكُمْ عَذَاباً قَرِيباً } [النبأ: 40] الآية.
وفي أول هذه السورة الكريمة كرر تعالى الإنذار، فحذف في الموضع الأول مفعول الإنذار الأول، وحذف في الثاني مفعول الثاني، فصار المذكور دليلاً على المحذوف في الموضعين. وتقدير المفعول الأول المحذوف في الموضع الأول: لينذر الذين كفروا بأساً شديداً من لدنه. وتقدير المفعول الثاني المحذوف في الموضع الثاني: وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولداً بأساً شديداً من لدنه.
وقد أشار تعالى في هذه الآية الكريمة إلى أن هذا القرآن العظيم تخويف وتهديد للكافرين. وبشارة للمؤمنين المتقين. إذ قال في تخويف الكفرة به { لِّيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِّن لَّدُنْهُ } وقال { وَيُنْذِرَ ٱلَّذِينَ قَالُواْ ٱتَّخَذَ ٱللَّهُ وَلَداً } الآية. وقال في بشارته للمؤمنين: { وَيُبَشِّرَ ٱلْمُؤْمِنِينَ ٱلَّذِينَ يَعْمَلُونَ ٱلصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً } الآية.
وهذا الذي ذكره هنا من كونه إنذاراً لهؤلاء وبشارة لهؤلاء بينه في مواضع أخر كقوله: { فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلَسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ ٱلْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُّدّاً } [مريم: 97]، وقوله: { الۤمۤصۤ كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلاَ يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَىٰ لِلْمُؤْمِنِينَ } [الأعراف: 1-2].
وقد أوضحنا هذا المبحث في أول سورة "الأعراف". وأوضحنا هنا لك المعاني التي ورد بها الإنذار في القرآن. والبأس الشديد الذي أنذرهم إياه: هو العذاب الأليم في الدنيا والآخرة والبشارة: الخبر بما يسر.
وقد تطلق العرب البشارة على الإخبار بما يسوء، ومنه قوله تعالى: { فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } [لقمان: 7] ومنه قول الشاعر:
وبشرتني يا سعد أن أحبتي جفوني وقالوا الود موعده الحشر
وقول الآخر:
يبشرني الغراب ببين أهلي فقلت له ثكلتك من بشير
والتحقيق: أن إطلاق البشارة على الإخبار بما يسوء، أسلوب من أساليب اللغة العربية. ومعلوم أن علماء البلاغة يجعلون مثل ذلك مجازاً، ويسمونه استعارة عنادية، ويقسمونها إلى تهكمية وتمليحية كما هو معروف في محله.
وقوله في هذه الآية الكريمة: { ٱلَّذِينَ يَعْمَلُونَ ٱلصَّالِحَاتِ } بينت المراد به آيات أخر، فدلت على أن العمل لا يكون صالحاً إلا بثلاثة أمور:
الأول - أن يكون مطابقاً لما جاء به النَّبي صلى الله عليه وسلم. فكل عمل مخالف لما جاء به صلوات الله وسلامه عليه فليس بصالح، بل هو باطل، قال تعالى: { وَمَآ آتَاكُمُ ٱلرَّسُولُ فَخُذُوهُ } [الحشر: 7] الآية، وقال: { مَّنْ يُطِعِ ٱلرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ ٱللَّهَ } [النساء: 80] وقال: { قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ ٱللَّهَ فَٱتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ ٱللَّهُ } [آل عمران: 31] الآية، وقال: { أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُواْ لَهُمْ مِّنَ ٱلدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ ٱللَّهُ } [الشورى: 21] الآية. إلى غير ذلك من الآيات.
الثاني - أن يكون العامل مخلصاً في عمله لله فيما بينه وبين الله، قال تعالى: { وَمَآ أُمِرُوۤاْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ ٱللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ ٱلدِّينَ } [البينة: 5] الآية، وقال: { { قُلْ إِنِّيۤ أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ ٱللَّهَ مُخْلِصاً لَّهُ ٱلدِّينَ وَأُمِرْتُ لأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ ٱلْمُسْلِمِينَ قُلْ إِنِّيۤ أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ قُلِ ٱللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَّهُ دِينِي فَٱعْبُدُواْ مَا شِئْتُمْ مِّن دُونِهِ } [الزمر: 11-15] إلى غير ذلك من الآيات.
الثالث - أن يكون العمل مبنياً على أساس الإيمان والعقيدة الصحيحة، لأن العمل كالسقف، والعقيدة كالأساس، قال تعالى: { مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ } [النحل: 97]. الآية، فجعل الإيمان قيداً في ذلك.
وبين مفهوم هذا القيد في آيات كثيرة، كقوله في أعمال غير المؤمنين: { وَقَدِمْنَآ إِلَىٰ مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَآءً مَّنثُوراً } [الفرقان: 23]، وقوله: { أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ } [النور: 39] الآية، وقوله: { أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ ٱشْتَدَّتْ بِهِ ٱلرِّيحُ } [إبراهيم: 18] الآية، إلى غير ذلك من الآيات كما تقدم إيضاحه.
والتحقيق: أن مفرد الصالحات في قوله: { يعملون الصالحات }، وقوله: { وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ } [البقرة: 25] ونحو ذلك - أنه صالحة، وأن العرب تطلق لفظة الصالحة على الفعلة الطيبة. كإطلاق اسم الجنس لتناسى الوصيفة، كما شاع ذلك الإطلاق في الحسنة مراداً بها الفعلة الطيبة.
ومن إطلاق العرب لفظ الصالحة على ذلك قول أبي العاص بن الربيع في زوجه زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم:
بنت الأمين جزاك الله صالحة وكل بعل سيثنى بالذي علما
وقول الحطيئة:
كيف الهجاء ولا تنفك صالحة من آل لأم بظهر الغيب تأتيني
وسئل إعرابي عن الحب فقال:
الحب مشغلة عن كل صالحة وسكرة الحب تنفي سكرة الوسن
وقوله في هذه الآية الكريمة: { أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً } أي وليبشرهم بأن لهم أجراً حسناً. الأجر: جزاء العمل، وجزاء عملهم المعبر عنه هنا بالأجر: هو الجنة. ولذا قال { مَّاكِثِينَ فِيهِ } [الكهف:3] وذكر الضمير في قوله { فِيهِ } لأنه راجع إلى الأجر وهو مذكر، وإن كان المراد بالأجر الجنة: ووصف أجرهم هنا بأنه حسن، وبين أوجه حسنه في آيات كثيرة. كقوله { ثُلَّةٌ مِّنَ ٱلأَوَّلِينَ وَقَلِيلٌ مِّنَ ٱلآخِرِينَ عَلَىٰ سُرُرٍ مَّوْضُونَةٍ مُّتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ } [الواقعة: 13-16] إلى قوله - { ثُلَّةٌ مِّنَ ٱلأَوَّلِينَ وَثُلَّةٌ مِّنَ ٱلآخِرِينَ } [الواقعة: 39-40]، وكقوله: { فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّآ أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ } [السجدة: 17] الآية، والآيات بمثل ذلك كثيرة جداً معلومة.
وقوله في هذه الآية الكريمة: { مَّاكِثِينَ فِيهِ أَبَداً } أي خالدين فيه بلا انقطاع.
وقد بين هذا المعنى في مواضع أخر كثيرة، كقوله: { وَأَمَّا ٱلَّذِينَ سُعِدُواْ فَفِي ٱلْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ ٱلسَّمَاوَاتُ وَٱلأَرْضُ إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ عَطَآءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ } [هود: 108] أي غير مقطوع، وقوله: { إِنَّ هَـٰذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِن نَّفَادٍ } [ص: 54] أي ما له من انقطاع وانتهاء، وقوله: { مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ ٱللَّهِ بَاقٍ } [النحل: 96]، وقوله: { وَٱلآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ } [الأعلى: 17] إلى غير ذلك من الآيات.
وقوله تعالى في الآية الكريمة: { وَيُنْذِرَ ٱلَّذِينَ قَالُواْ ٱتَّخَذَ ٱللَّهُ وَلَداً } أي ينذرهم بأساً شديداً { مِّن لَّدُنْهُ } [الكهف: 2] أي من عنده كما تقدم. وهذا من عطف الخاص على العام، لأن قوله { لِّيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِّن لَّدُنْهُ } [الكهف: 2] شامل للذين قالوا اتخذ الله ولداً، ولغيرهم من سائر الكفار.
وقد تقرر في فن المعاني: أن عطف الخاص على العام إذا كان الخاص يمتاز عن سائر أفراد العام بصفات حسنة أو قبيحة - من الإطناب المقبول، تنزيلاً للتغاير في الصفات منزلة التغاير في الذوات.
ومثاله في الممتاز عن سائر أفراد العام بصفات حسنة قوله تعالى: { وَمَلاۤئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ } [البقرة: 98] الآية، وقوله: { وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ ٱلنَّبِيِّيْنَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِن نُّوحٍ } [الأحزاب: 7].
ومثاله في الممتاز بصفات قبيحة الآية التي نحن بصددها، فإن { الذين قالوا اتخذ الله ولداً } امتازوا عن غيرهم بفرية شنعاء. ولذا ساغ عطفهم على اللفظ الشامل لهم ولغيرهم.
والآيات الدالة على شدة عظم فريتهم كثيرة جداً. كقوله هنا: { كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ } [الكهف:5] الآية، وكقوله تعالى: { وَقَالُواْ ٱتَّخَذَ ٱلرَّحْمَـٰنُ وَلَداً لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً تَكَادُ ٱلسَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ ٱلأَرْضُ وَتَخِرُّ ٱلْجِبَالُ هَدّاً أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَـٰنِ وَلَداً وَمَا يَنبَغِي لِلرَّحْمَـٰنِ أَن يَتَّخِذَ وَلَداً } [مريم: 88-92]، وقوله: { أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُم بِٱلْبَنِينَ وَٱتَّخَذَ مِنَ ٱلْمَلاۤئِكَةِ إِنَاثاً إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً } [الإسراء: 40] والآيات بمثل هذا كثيرة معلومة.
وقد قدمنا أن القرآن بين أن الذين نسبوا الولد لله سبحانه وتعالى عن ذلك علواً كبيراً ثلاثة أصناف من الناس: اليهود، والنصارى، قال تعالى: { وَقَالَتِ ٱلْيَهُودُ عُزَيْرٌ ٱبْنُ ٱللَّهِ وَقَالَتْ ٱلنَّصَارَى ٱلْمَسِيحُ ٱبْنُ ٱللَّهِ ذٰلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ } [التوبة: 30] الآية. والصنف الثالث مشركو العرب. كما قال تعالى عنهم: { وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ ٱلْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَّا يَشْتَهُونَ } [النحل: 57]، والآيات بنحوها كثيرة معلومة.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: { مَّا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلاَ لآبَائِهِمْ } يعني أن ما نسبوه له جلَّ وعلا من اتخاذ الولد لا علم لهم به. لأنه مستحيل.
والآية تدل دلالة واضحة على أن نفي الفعل لا يدل على إمكانه. ومن الآيات الدالة على ذلك قوله تعالى { وَمَا ظَلَمُونَا وَلَـٰكِن كَانُوۤاْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } [البقرة: 57] لأن ظلمهم لربنا وحصول العلم لهم باتخاذه الولد - كل ذلك مستحيل عقلاً. فنفيه لا يدل على إمكانه. ومن هذا القبيل قول المنطقيين: السالبة لا تقتضي وجود الموضوع، كما بيناه في غير هذا الموضع.
وما نفاه عنهم وعن آبائهم من العلم باتخاذه الولد سبحانه وتعالى عن ذلك علواً كبيراً - بينه في مواضع أخر، كقوله: { وَخَرَقُواْ لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يَصِفُونَ } [الأنعام: 100]، وقوله في آبائهم: { أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ } [المائدة: 104] إلى غير ذلك من الآيات.
وقوله في هذه الآية الكريمة: { كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ } يعني أن ما قالوه بأفواههم من أن الله اتخذ ولداً أمر كبير عظيم. كما بينا الآيات الدالة على عظمه آنفاً. كقوله: { إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً } [الإسراء: 40]، وقوله: { تَكَادُ ٱلسَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ ٱلأَرْضُ وَتَخِرُّ ٱلْجِبَالُ هَدّاً } [مريم: 90] الآية. وكفى بهذا كبراً وعظماً.
وقال بعض علماء العربية: إن قوله { كبرت كلمة } معناه التعجب. فهو بمعنى ما أكبرها كلمة. أو أكبر بها كلمة.
والمقرر في علم النحو: أن "فعل" بالضم تصاغ لإنشاء الذم والمدح، فتكون من باب نعم وبئس، ومنه قوله تعالى: { كبرت كلمة } الآية. وإلى هذا أشار في الخلاصة بقوله:
واجعل كبئس ساء واجعل فعلاً من ذي ثلاثة كنعم مسجلا
وقوله "كنعم" أي اجعله من باب "نعم" فيشمل بئس. وإذا تقرر ذلك ففاعل "كبر" ضمير محذوف و { كلمة } نكرة مميزة للضمير المحذوف. على حد قوله في الخلاصة.
ويرفعان مضمراً يفسره مميز كنعم قوماً معشره
والمخصوص بالذم محذوف، والتقدير: كبرت هي كلمة خارجة من أفواههم تلك المقالة التي فاهوا بها، وهي قولهم: اتخذ الله ولداً، وأعرب بعضهم { كلمة } بأنها حال، أي كبرت فريتهم في حال كونها كلمة خارجة من أفواههم. وليس بشيء.
وقال ابن كثير في تفسيره { تخرج من أفواهِهم } أي ليس لها مستند سوى قولهم ولا دليل لهم عليها إلا كذبهم وافتراؤهم، ولذا قال: { إِن يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً }.
وهذا المعنى الذي ذكره ابن كثير له شواهد في القرآن. كقوله: { يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ } [آل عمران: 167] ونحو ذلك من الآيات.
والكذب مخالفة الخبر للواقع على أصح الأقوال.
فائدة
لفظة "كبر" إذا أريد بها غير الكبر في السن فهي مضمومة الباء في الماضي والمضارع، كقوله هنا { كبرت كلمة } الآية. وقوله: { كَبُرَ مَقْتاً عِندَ ٱللَّهِ أَن تَقُولُواْ مَا لاَ تَفْعَلُونَ } [الصف: 3]، وقوله: { أَوْ خَلْقاً مِّمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ } [الإسراء: 51] ونحو ذلك.
وإن كان المراد بها الكبر في السن فهي مكسورة الباء في الماضي، مفتوحتها في المضارع على القياس، ومن ذلك قوله تعالى: { وَلاَ تَأْكُلُوهَآ إِسْرَافاً وَبِدَاراً أَن يَكْبَرُواْ } [النساء: 6]، وقول المجنون:
تعشقت ليلى وهي ذات ذوائب ولم يبد للعينين من ثديها حجم
صغيرين نرعى إليهم يا ليت أننا إلى اليوم لم نكبر ولم تكبر اليهم
وقوله في هذا البيت "صغيرين" شاهد عند أهل العربية في إتيان الحال من الفاعل والمفعول معاً.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة { كبرت كلمة } يعني بالكلمة: الكلام الذي هو قولهم { ٱتَّخَذَ ٱللَّهُ وَلَداً } [الكهف: 4].
وما دلت عليه هذه الآية الكريمة من أن الله يطلق اسم الكلمة على الكلام أوضحته آيات أخر. كقوله: { كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَآئِلُهَا } [المؤمنون: 100] الآية، والمراد بها قوله: { قَالَ رَبِّ ٱرْجِعُونِ لَعَلِّيۤ أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ } [المؤمنون: 99-100]. وقوله: { وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ ٱلْجِنَّةِ وَٱلنَّاسِ أَجْمَعِينَ } [هود: 119] وما جاء لفظ الكلمة في القرآن إلا مراداً به الكلام المفيد.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة { عِوَجَا } [الكهف: 1] هو بكسر العين في المعاني كما في هذه الآية الكريمة. وبفتحها فيما كان منتصباً كالحائط.
قال الجوهري في صحاحه: قال ابن السكيت: وكل ما كان ينتصب كالحائط والعود قيل فيه "عوج" بالفتح. والعِوج - بالكسر - ما كان في أرض أو دين أو معاش، يقال في دينه عوج اهـ.
وقرأ هذا الحرف حفص عن عاصم في الوصل { عوجا } بالسكت على الألف المبدلة من التنوين سكتة يسيرة من غير تنفس، إشعاراً بأن { قَيِّماً } [الكهف: 2] ليس متصلاً بـ { عوجا } في المعنى بل للإشارة إلى أنه منصوب بفعل مقدر، أي جعله قيماً كما قدمنا.
وقرأ أبو بكر عن عاصم { مِّن لَّدُنْهُ } [الكهف: 2] بإسكان الدال مع إشمامها الضم وكسر النون والهاء ووصلها بياء في اللفظ.
وقوله: { وَيُبَشِّرَ ٱلْمُؤْمِنِينَ ٱلَّذِينَ } [الكهف: 2] قرأه الجمهور بضم الياء وفتح الباء الموحدة وكسر الشين مشددة. وقرأه حمزة والكسائي "يبشر" بفتح الياء وإسكان الباء الموحدة وضم الشين.