خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَٰتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي ءَاذَانِهِمْ وَقْراً وَإِن تَدْعُهُمْ إِلَىٰ ٱلْهُدَىٰ فَلَنْ يَهْتَدُوۤاْ إِذاً أَبَداً
٥٧
-الكهف

أضواء البيان في تفسير القرآن

قوله تعالى: { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيِاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ }. الآية.
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أنه لا أحد أظلم. أي أكثر ظلماً لنفسه ممن ذكر. أي وعظ بآيات ربه، وهي هذا القرآن العظيم "فأعرض عنها" أي تولى وصد عنها. وإنما قلنا: إن المراد بالآيات هذا القرآن العظيم لقرينة تذكير الضمير العائد إلى الآيات في قوله { أن يفقهوه }، أي القرآن المعبر عنه بالآيات. ويحتمل شمول الآيات للقرآن وغيره، ويكون الضمير في قوله { أن يفقهوه } أي ما ذكر من الآيات، كقول رؤبة:

فيها خطوط من سواد وبلق كأنه في الجلد توليع البهق

ونظير ذلك في القرآن قوله تعالى: { قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ فَارِضٌ وَلاَ بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذٰلِكَ } [البقرة: 68] أي ذلك الذي ذكر من الفارض والبكر. ونظيره من كلام العرب قول ابن الزبعري:

إن للخير وللشر مدى وكلا ذلك وجه وقبل

أي كلا ذلك المذكور من خير وشر. وقد قدمنا إيضاح هذا. وقوله { وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ } أي من المعاصي والكفر، مع أن الله لم ينسه بل هو محصيه عليه ومجازيه، كما قال تعالى: { يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ ٱللَّهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوۤاْ أَحْصَاهُ ٱللَّهُ وَنَسُوهُ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ } [المجادلة: 6]، وقال تعالى: { وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذٰلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً } [مريم: 64]، وقال تعالى: { قَالَ عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لاَّ يَضِلُّ رَبِّي وَلاَ يَنسَى } [طه: 52]. وقال بعض العلماء في قوله { وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ } أي تركه عمداً ولم يتب منه. وبه صدر القرطبيرحمه الله تعالى. وما ذكره في هذه الآية الكريمة من أن الإعراض عن التذكرة بآيات الله من أعظم الظلم، قد زاد عليه في مواضع أخر بيان أشياء من النتائج السيئة، والعواقب الوخيمة الناشئة من الإعراض عن التذكرة. فمن نتائجه السيئة: ما ذكره هنا من أن صاحبه من أعظم الناس ظلماً. ومن نتائجه السيئة جعل الأكنة على القلوب حتى لا تفقه الحق، وعدم الاهتداء أبداً كما قال هنا مبيناً بعض ما ينشأ عنه من العواقب السيئة: { إِنَّا جَعَلْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً وَإِن تَدْعُهُمْ إِلَىٰ ٱلْهُدَىٰ فَلَنْ يَهْتَدُوۤاْ إِذاً أَبَداً } [الكهف: 57] ومنها انتقام الله جل وعلا من المعرض عن التذكرة، كما قال تعالى: { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَآ إِنَّا مِنَ ٱلْمُجْرِمِينَ مُنتَقِمُونَ } [السجدة: 22]. ومنها كون المعرض كالحمار، كما قال تعالى: { فَمَا لَهُمْ عَنِ ٱلتَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ } [المدثر: 49-50] الآية. ومنها الإنذار بصاعقة مثل صاعقة عاد وثمود، كما قال تعالى: { فَإِنْ أَعْرَضُواْ فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ } [فصلت: 13] الآية. ومنها المعيشة الضنك والعمى، كما قال تعالى: { وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ ٱلْقِيامَةِ أَعْمَىٰ } [طه: 124]. ومنها سلكه العذاب الصعد، كما قال تعالى: { وَمَن يُعْرِضْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَاباً صَعَداً } [الجن: 17] ومنها تقبيض القرناء من الشياطين، كما قال تعالى: { وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ ٱلرَّحْمَـٰنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ } [الزخرف: 36] إلى غير ذلك من النتائج السيئة، والعواقب الوخيمة، الناشئة عن الإعراض عن التذكير بآيات الله جل وعلا. وقد أمر تعالى في موضع آخر بالإعراض عن المتولي عن ذكره، القاصر نظره على الحياة الدنيا. وبين أن ذلك هو مبلغه من العلم، فلا علم عنده بما ينفعه في معاده، وذلك في قوله تعالى: { فَأَعْرِضْ عَن مَّن تَوَلَّىٰ عَن ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلاَّ ٱلْحَيَاةَ ٱلدُّنْيَا ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِّنَ ٱلْعِلْمِ } [النجم: 29-30]. وقد نهى جل وعلا عن طاعة مثل ذلك المتولي عن الذكر الغافل عنه في قوله: { وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَٱتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً } [الكهف: 28] كما تقدم إيضاحه.
وقوله في هذه الآية: { ما قدمت يداه } أي ما قدم من أعمال الكفر. ونسبة التقديم إلى خصوص اليد لأن اليد أكثر مزاولة للأعمال من غيرها من الأعضاء، فنسبت الأعمال إليها على عادة العرب في كلامهم، وإن كانت الأعمال التي قدمها منها ما ليس باليد كالكفر باللسان والقلب، وغير ذلك من الأعمال التي لا تزاول باليد كالزنى. وقد بينا في كتابنا (دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب) وجه الجمع بين قوله { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيِاتِ رَبِّهِ } الآية، وقوله
{ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ ٱفْتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ كَذِباً } [الأنعام: 21] ونحو ذلك من الآيات. وأشهر أوجه الجمع في ذلك وجهان: أحدهما - أن كل من قال الله فيه: ومن أظلم ممن فعل كذا، لا أحد أظلم من واحد منهم. وإذاً فهم متساوون في الظلم لا يفوق بعضهم فيه بعضاً، فلا إشكال في كون كل واحد منهم لا أحد أظلم منه. والثاني - أن صلة الموصول تعين كل واحد في محله. وعليه فالمعنى في قوله { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيِاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا }. لا أحد أظلم ممن ذكر فأعرض أظلم ممن ذكر بآيات ربه فأعرض عنها. وفي قوله: { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ ٱفْتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ كَذِباً } [الأنعام: 21]، لا أحد من المفترين أظلم ممن افترى على الله كذباً، وهكذا. والأول أولى. لأنه جار على ظاهر القرآن ولا إشكال فيه. وممن اختاره أبو حيان في البحر.
قوله تعالى: { إِنَّا جَعَلْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً } الآية.
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أنه جعل على قلوب الظالمين المعرضين عن آيات الله إذا ذكروا بها - أكنة أي أغطية تغطي قلوبهم فتمنعها من إدراك ما ينفعهم مما ذكروا به. وواحد الأكنة كنان، وهو الغطاء. وأنه جعل في آذانهم وقراً، أي ثقلاً يمنعها من سماع ما ينفعهم من الآيات التي ذكروا بها. وهذا المعنى أوضحه الله تعالى في آيات أخر. كقوله:
{ خَتَمَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهمْ وَعَلَىٰ سَمْعِهِمْ وَعَلَىٰ أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ } [البقرة: 7]، وقوله: { أَفَرَأَيْتَ مَنِ ٱتَّخَذَ إِلَـٰهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ ٱللَّهُ عَلَىٰ عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَىٰ سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَىٰ بَصَرِهِ غِشَاوَةً } [الجاثية: 23] الآية، وقوله تعالى: { وَإِذَا قَرَأْتَ ٱلْقُرآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱلآخِرَةِ حِجَاباً مَّسْتُوراً وَجَعَلْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِيۤ آذَانِهِمْ وَقْراً وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي ٱلْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْاْ عَلَىٰ أَدْبَارِهِمْ نُفُوراً } [الإسراء: 45-46]، وقوله: { أَوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ لَعَنَهُمُ ٱللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَىٰ أَبْصَارَهُمْ } [محمد: 23]، وقوله: { مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ ٱلسَّمْعَ وَمَا كَانُواْ يُبْصِرُونَ } [هود: 20]. والآيات بمثل ذلك كثيرة جداً.
فإن قيل: إذا كانوا لا يستطيعون السمع ولا يبصرون ولا يفقهون، لأن الله جعل الأكنة المانعة من الفهم على قلوبهم. والوقر الذي هو الثقل المانع من السمع في آذانهم فهم مجبورون. فما وجه تعذيبهم على شيء لا يستطيعون العدول عنه والانصراف إلى غيره؟!
فالجواب - أن الله جل وعلا بين في آيات كثيرة من كتابه العظيم: أن تلك الموانع التي يجعلها على قلوبهم وسمعم وأبصارهم، كالختم والطبع والغشاوة والأكنة، ونحو ذلك - إنما جعلها عليهم جزاء وفاقاً لما بادروا إليه من الكفر وتكذيب الرسل باختيارهم، فأزاغ الله قلوبهم بالطبع والأكنة ونحو ذلك، جزاء على كفرهم، فمن الآيات الدالة على ذلك قوله تعالى:
{ بَلْ طَبَعَ ٱللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ } [النساء: 155] أي بسبب كفرهم، وهو نص قرآني صريح في أن كفرهم السابق هو سبب الطبع على قلوبهم. وقوله: { فَلَمَّا زَاغُوۤاْ أَزَاغَ ٱللَّهُ قُلُوبَهُمْ } [الصف: 5] وهو دليل أيضاً واضح على أن سبب إزاغة الله قلوبهم هو زيغهم السابق. وقوله: { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُواّ ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ } [المنافقون: 3] وقوله تعالى: { فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ ٱللَّهُ مَرَضاً } [البقرة: 10] الآية، وقوله: { وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ } [الأنعام: 110]، وقوله تعالى: { كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } [المطففين: 14]، إلى غير ذلك من الآيات الدالة على أن الطبع على القلوب ومنعها من فهم ما ينفع عقاب من الله على الكفر السابق على ذلك. وهذا الذي ذكرنا هو وجه رد شبهة الجبرية التي يتمسكون بها في هذه الآيات المذكورة وأمثالها في القرآن العظيم. وبهذا الذي قررنا يحصل الجواب أيضاً عن سؤال يظهر لطالب العلم فيما قررنا: وهو أن يقول: قد بينتم في الكلام على الآية التي قبل هذه أن جعل الأكنة على القلوب من نتائج الإعراض عن آيات الله عند التذكير بها، مع أن ظاهر الآية يدل عكس ذلك من أن الإعراض المذكور سببه هو جعل الأكنة على القلوب، لأن "إن" من حروف التعليل كما تقرر في الأصول في مسلك الإيماء والتنبيه، كقولك: اقطعه إنه سارق، وعاقبه إنه ظالم، فالمعنى: اقطعه لعلة سرقته، وعاقبه لعلة ظلمه. وكذلك قوله تعالى: { فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً } [الكهف: 57] أي أعرض عنها لعلة جعل الأكنة على قلوبهم. لأن الآيات الماضية دلت على أن الطبع الذي يعبر عنه تارة بالطبع، وتارة بالختم، وتارة بالأكنة، ونحو ذلك - سببه الأول الإعراض عن آيات الله والكفر بها كما تقدم إيضاحه.
وفي هذه الآية الكريمة سؤالان معروفان: الأول - أن يقال: ما مفسر الضمير في قوله: { أن يفقهوه } وقد قدمنا أنه الآيات في قوله { ذُكِّرَ بِآيِاتِ رَبِّهِ } بتضمين الآيات معنى القرآن. فقوله { أن يفقهوه } أي القرآن المعبر عنه بالآيات كما تقدم إيضاحه قريباً.
السؤال الثاني - أن يقال: ما وجه إفراد الضمير في قوله { ذكر } وقوله: { أعرض عنها } وقوله { وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ } مع الإتيان بصيغة الجمع في الضمير في قوله: { إِنَّا جَعَلْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً } مع أن مفسر جميع الضمائر المذكورة واحد، وهو الاسم الموصول في قوله: { مِمَّن ذُكِّرَ بِآيِاتِ رَبِّهِ } الآية.
والجواب - هو أن الإفراد باعتبار لفظ "من" والجمع باعتبار معناها، وهو كثير في القرآن العظيم. والتحقيق في مثل ذلك جواز مراعاة اللفظ تارة، ومراعاة المعنى تارة أخرى مطلقاً. خلافاً لمن زعم أن مراعاة اللفظ بعد مراعاة المعنى لا تصح. والدليل على صحة قوله تعالى:
{ وَمَن يُؤْمِن بِٱللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ ٱللَّهُ لَهُ رِزْقاً } [الطلاق: 11] فإنه في هذه الآية الكريمة راعى لفظ "من" أولاً فأفرد الضمير في قوله { يؤمن } وقوله "ويعمل" وقوله "يُدْخِلْهُ" وراعى المعنى في قوله: { خالدين } فأتى فيه بصيغة الجمع، ثم راعى اللفظ بعد ذلك في قوله: { قَدْ أَحْسَنَ ٱللَّهُ لَهُ رِزْقاً } وقوله: { أن يفقهوه } فيه وفي كل من يشابهه من الألفاظ وجهان معروفان لعماء التفسير: أحدهما - أن المعنى جعلنا على قلوبهم أكنة لئلا يفقهوه. وعليه فلا النافية محذوفة دل المقام عليها. وعلى هذا القول هنا اقتصر ابن جرير الطبري. والثاني - أن المعنى جعلنا على قلوبهم أكنة كراهة أن يفقهوه، وعلى هذا فالكلام على تقدير مضاف، وأمثال هذه الآية في القرآن كثيرة. وللعلماء في كلها الوجهان المذكوران كقوله تعالى: { يُبَيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ } [النساء: 176] أي لئلا تضلوا، أو كراهة أن تضلوا. وقوله: { إِن جَآءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوۤاْ أَن تُصِيبُواْ قَوْمًا بِجَهَالَةٍ } [الحجرات: 6] أي لئلا تصيبوا، أو كراهة أن تصيبوا، وأمثال ذلك كثيرة في القرآن العظيم.
وقوله تعالى: { أن يفقهوه } أي يفهموه. فالفقه: الفهم، ومنه قوله تعالى:
{ فَمَالِ هَـٰؤُلاۤءِ ٱلْقَوْمِ لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً } [النساء: 78] أي يفهمونه، وقوله تعالى { قَالُواْ يٰشُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيراً مِّمَّا تَقُولُ } [هود: 91] أي ما نفهمه. والوقر: الثقل. وقال الجوهري في صحاحه: الوقر - بالفتح، الثقل في الأذن. والوقر - بالكسر: الحمل، يقال جاء يحمل وقره، وأوقر بعيره وأكثر ما يستعمل الوقر في حمل البغال والحمال اهـ وهذا الذي ذكره الجوهري وغيره جاء به القرآن، قال في ثقل الأذن: { وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً } وقال في الحمل: { فَٱلْحَامِلاَتِ وِقْراً } [الذاريات: 2].
قوله تعالى: { وَإِن تَدْعُهُمْ إِلَىٰ ٱلْهُدَىٰ فَلَنْ يَهْتَدُوۤاْ إِذاً أَبَداً } الآية.
بين في هذه الآية الكريمة: أن الذين جعل الله على قلوبهم أكنة تمنعهم أن يفقهوا ما ينفعهم من آيات القرآن التي ذكروا بها لا يهتدون أبداً، فلا ينفع فيهم دعاؤك إياهم إلى الهدى. وهذا المعنى الذي اشار له هنا من أن من اشقاهم الله لا ينفع فيهم التذكير جاء مبيناً في مواضع أخر، كقوله
{ إِنَّ ٱلَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَآءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّىٰ يَرَوُاْ ٱلْعَذَابَ ٱلأَلِيمَ } [يونس: 96-97]، وقوله تعالى: { كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ ٱلْمُجْرِمِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّىٰ يَرَوُاْ ٱلْعَذَابَ ٱلأَلِيمَ } [الشعراء: 200-201]، وقوله تعالى: { وَمَا تُغْنِي ٱلآيَاتُ وَٱلنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ } [يونس: 101]، وقوله تعالى: { وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ ٱللَّهِ وَيَجْعَلُ ٱلرِّجْسَ عَلَى ٱلَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ } [يونس: 100]، وقوله تعالى: { إِن تَحْرِصْ عَلَىٰ هُدَاهُمْ فَإِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَهْدِي مَن يُضِلُّ وَمَا لَهُمْ مِّن نَّاصِرِينَ } [النحل: 37].
وهذه الآية وأمثالها في القرآن فيها وجهان معروفان عند العلماء.
أحدهما - أنها في الذين سبق لهم في علم الله أنهم أشقياء، عياذاً بالله تعالى.
والثاني - أن المراد أنهم كذلك ما داموا متلبسين بالكفر. فإن هداهم الله إلى الإيمان وأنابوا زال ذلك المانع، والأول أظهر والعلم عند الله تعالى. والفاء في قوله: { فلن يهتدوا } لأن الفعل الذي بعد "لن" لا يصلح أن يكون شرطاَ لـ "إن" ونحوها. والجزاء إذا لم يكن صالحاً "لأن" يكون شرطاً لـ "إن" ونحوها - لزم اقترانه بالفاء. كما عقده في الخلاصة بقوله:

واقرن بفاحتما جواباً لو جعل شرطاً لأن أو غيرها لم ينجعل

وقوله في هذه الآية الكريمة "إذا" جزاء وجواب. فدل على انتفاء اهتدائهم لدعوة الرسول صلى الله عليه وسلم، بمعنى أنهم جعلوا ما يجب أن يكون سبباً للاهتداء سبباً لانتفائه. لأن المعنى: فلن يهتدوا إذا دعوتهم - ذكر هذا المعنى الزمخشري، وتبعه أبو حيان في البحر. وهذا المعنى قد غلطا فيه، وغلط فيه خلق لا يحصى كثرة من البلاغيين وغيرهم.
وإيضاح ذلك - أن الزمخشري هنا وأبا حيان ظنا أن قوله: { وَإِن تَدْعُهُمْ إِلَىٰ ٱلْهُدَىٰ فَلَنْ يَهْتَدُوۤاْ إِذاً أَبَداً } شرط وجزاء، وأن الجزاء مرتب على الشرط كترتيب الجزاء على ما هو شرط فيه. ولذا ظنا أن الجزاء الذي هو عدم الاهتداء المعبر عنه في الآية بقوله: { فَلَنْ يَهْتَدُوۤاْ } مرتب على الشرط الذي هو دعاؤه إياهم المعبر عنه في الآية بقوله: { وَإِن تَدْعُهُمْ إِلَىٰ ٱلْهُدَىٰ } المشار إليه أيضاً بقوله "إذاً" فصار دعاؤه إياهم سبب انتفاء اهتدائهم وهذا غلط. لأن هذه القضية الشرطية في هذه الآية الكريمة ليست شرطية لزومية، حتى يكون بين شرطها وجزائها ارتباط، بل هي شرطية اتفاقية، والشرطية الاتفاقيه لا ارتباط أصلاً بين طرفيها، فليس أحدهما سبباً في الآخر، ولا ملزوماً ولا لازماً له، كما لو قلت: إن كان الإنسان ناطقاً فالفرس صاهل - فلا ربط بين الطرفين، لأن الجزاء في الاتفاقية له سبب آخر غير مذكور، كقولك: لو لم يخف الله لم يعصه، لأن سبب انتفاء العصيان ليس هو عدم الخوف الذي هو الشرط، بل هو شيء آخر غير مذكور، وهو تعظيم الله جل وعلا، ومحبته المانعة من معصيته. وكذلك قوله هنا: { فَلَنْ يَهْتَدُوۤاْ إِذاً أَبَداً } سببه الحقيقي غير مذكور معه فليس هو قوله "وإن تدعهم" كما ظنه الزمخشري وأبو حيان وغيرهما. بل سببه هو إرادة الله جل وعلا انتفاء اهتدائهم على وفق ما سبق في علمه أزلاً.
ونظير هذه الآية الكريمة في عدم الارتباط بين طرفي الشرطية قوله تعالى:
{ قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ ٱلَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ ٱلْقَتْلُ إِلَىٰ مَضَاجِعِهِمْ } [آل عمران: 154] لأن سبب بروزهم إلى مضاجعهم شيء آخر غير مذكور في الآية، وهو ما سبق في علم الله من أن بروزهم إليها لا محالة واقع، وليس سببه كينونتهم في بيوتهم المذكورة في الآية.
وكذلك قوله تعالى:
{ قُل لَّوْ كَانَ ٱلْبَحْرُ مِدَاداً لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ ٱلْبَحْرُ } [الكهف: 109] الآية، إلى غير ذلك من الآيات. وقد أوضحت الفرق بين الشرطية اللزومية والشرطية الاتفاقية في أرجوزتي في المنطق وشرحي لها في قولي:

مقدم الشرطية المتصلة مهما تكن صحبة ذاك التال له
لموجب قد اقتضاها كسبب فهي اللزومية ثم إن ذهب
موجب الاصطحاب ذا بينهما فالاتفاقية عند العلما

ومثال الشرطية المتصلة اللزومية قولك: كلما كانت الشمس طالعة كان النهار موجوداً، لظهور التلازم بين الطرفين، ويكفي في ذلك حصول مطلق اللازمية دون التلازم من الطرفين، كقولك: كلما كان الشيء إنساناً كان حيواناً، إذا لا يصدق عكسه.
فلو قلت: كلما كان الشيء حيواناً كان إنساناً لم يصدق، لأن اللزوم في أحد الطرفين لا يقتضي الملازمة في كليهما، ومطلق اللزوم تكون به الشرطية لزومية، أما إذا عدم اللزوم من أصله بين طرفيها فهي اتفاقية. ومثالها: كما كان الإنسان ناطقاً كان الحمار ناهقاً. وبسبب عدم التنبه للفرق بين الشرطية اللزومية، والشرطية الاتفاقية - ارتبك خلق كثير من النحويين والبلاغيين في الكلام على معنى "لو" لأنهم أرادوا أن يجمعوا في المعنى بين قولك: لو كانت الشمس طالعة لكان النهار موجوداً. وبين قولك: لو لم يخف الله لم يعصه، مع أن الشرط سبب في الجزاء في الأول، لأنها شرطية لزومية، ولا ربط بينهما في الثاني لأنها شرطية اتفاقية. ولا شك أن من أراد أن يجمع بين المفترقين ارتبك، والعلم عند الله تعالى.