خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى ٱلأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُم أَحْسَنُ عَمَلاً
٧
وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيداً جُرُزاً
٨
-الكهف

أضواء البيان في تفسير القرآن

قال الزمخشري في معنى هذه الآية الكريمة: "ما عليها" يعني ما على الأرض مما يصلح أن يكون زينة لها ولأهلها من زخارف الدنيا وما يستحسن منها.
وقال بعض العلماء: كل ما على الأرض زينة لها من غير تخصيص. وعلى هذا القول - فوجه كل الحيات وغيرها مما يؤذي زينة للأرض. لأنه يدل على وجود خالقه، واتصافه بصفات الكمال والجلال، ووجود ما يحصل به هذا العلم في شيء زينة له.
وقد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك: أن من أنواع البيان المذكورة فيه - أن يذكر لفظ عام ثم يصرح في بعض المواضع بدخول بعض أفراد ذلك العام فيه، كقوله تعالى:
{ ذٰلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ ٱللَّهِ } [الحج: 32] الآية. مع تصريحه بأن البدن داخلة في هذا العموم بقوله { وَٱلْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِّن شَعَائِرِ ٱللَّهِ } [الحج: 36] الآية.
وإذا علمت ذلك فاعلم أن قوله في هذه الآية الكريمة: { إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى ٱلأَرْضِ زِينَةً لَّهَا } قد صرح في مواضع أخر ببعض الأفراد الداخلة فيه، كقوله تعالى:
{ ٱلْمَالُ وَٱلْبَنُونَ زِينَةُ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا } [الكهف: 46] الآية، وقوله: { وَٱلْخَيْلَ وَٱلْبِغَالَ وَٱلْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً } [النحل: 8] الآية، إلى غير ذلك من الآيات.
وقوله في هذه الآية الكريمة: { صعيداً جرزاً } أي أرضاً بيضاء لا نبات بها. وقد قدمنا معنى "الصعيد" بشواهده العربية في سورة "المائدة".
والجرز: الأرض التي لا نبات بها كما قال تعالى:
{ أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَسُوقُ ٱلْمَآءَ إِلَى ٱلأَرْضِ ٱلْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنفُسُهُمْ أَفَلاَ يُبْصِرُونَ } [السجدة: 27] ومنه قول ذي الرمة:

طوى النحز والأجراز ما في غروضها وما بقيت إلا الضلوع الجراشع

لأن مراده "بالأجراز" الفيافي التي لا نبات فيها، والأجراز: جمع جرزة، والجرزة: جمع جرز، فهو جمع الجمع للجرز، كما قاله الجوهري في صحاحه.
قال الزمخشري في تفسير هذه الآية الكريمة { وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا } من هذه الزينة صعيداً أو جرزا، أي مثل أرض بيضاء لا نبات فيها بعد أن كانت خضراء معشبة في إزالة بهجته، وإماطة حسنه، وإبطال ما به - كان زينة من إماتة الحيوان، وتجفيف النبات والأشجار اهـ.
وهذا المعنى المشار إليه هنا جاء مبيناً في مواضع أخر، كقوله:
{ إِنَّمَا مَثَلُ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا كَمَآءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ ٱلسَّمَآءِ فَٱخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ ٱلأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ ٱلنَّاسُ وَٱلأَنْعَامُ حَتَّىٰ إِذَآ أَخَذَتِ ٱلأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَٱزَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَآ أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَآ أَتَاهَآ أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِٱلأَمْسِ كَذٰلِكَ نُفَصِّلُ ٱلآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } [يونس: 24]، وكقوله تعالى: { وَٱضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا كَمَآءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ ٱلسَّمَاءِ فَٱخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ ٱلأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ ٱلرِّياحُ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِراً } [الكهف: 45] إلى غير ذلك من الآيات.
وقوله في هذه الآية الكريمة { لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُم أَحْسَنُ عَمَلاً } أي لنختبرهم على ألسنة رسلنا.
وهذه الحكمة التي ذكرها هنا لجعل ما على الأرض زينة لها وهي الابتلاء في إحسان العمل - بين في مواضع أخر أنها هي الحكمة في خلق الموت والحياة والسموات والأرض، قال تعالى:
{ تَبَارَكَ ٱلَّذِي بِيَدِهِ ٱلْمُلْكُ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلْمَوْتَ وَٱلْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْغَفُورُ } [الملك: 1-2]، وقال تعالى: { وَهُوَ ٱلَّذِي خَلَق ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى ٱلْمَآءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً } [هود: 7].
وقد بين صلى الله عليه وسلم الإحسان بقوله:
"أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك" كما تقدم.
وهذا الذي أوضحنا من أنه جل وعلا جعل ما على الأرض زينة لها ليبتلى خلقه، ثم يهلك ما عليها ويجعله صعيداً جرزاً - فيه أكبر واعظ للناس، وأعظم زاجر عن اتباع الهوى، وإيثار الفاني على الباقي، ولذا قال صلى الله عليه وسلم:
"إن الدنيا حلوة خضرة، وإن الله مستخلفكم فيها فناظر ماذا تعملون. فاتقوا الدنيا، واتقوا النساء، فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء" .