خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُواْ يٰمَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيّاً
٢٧
يٰأُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ ٱمْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً
٢٨
-مريم

أضواء البيان في تفسير القرآن

لما اطمأنت مريم بسبب ما رأت من الآيات الخارقة للعادة التي تقدم ذكرها آنفاً - أتت به (أي بعيسى) قومها تحمله غير محتشمة ولا مكترثة بما يقولون، فقالوا لها: { يٰمَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيّاً }! قال مجاهد وقتادة وغير واحد: "فرياً" أي عظيماً. وقال سعيد بن مسعدة: "فرياً" أي مختلفاً مفتعلاً. وقال أبو عبيدة والأخفش: "فريا" أي عجيباً نادراً.
قال مقيدة عفا الله عنه وغفر له: الذي يفهم من الآيات القرآنية أن مرادهم بقولهم { لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيّاً } أي منكراً عظيماً، لأن الفري فعيل من الفرية، يعنون به الزنى، لأن ولد الزنى كالشيء المفترى المختلق، لأن الزانية تدعي إلحاقه بمن ليس أباه. ويدل على أن مرادهم بقولهم "فريا" الزنى قوله تعالى:
{ وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَىٰ مَرْيَمَ بُهْتَاناً عَظِيماً } [النساء: 156] لأن ذلك البهتان العظيم الذي هو ادعاؤهم أنها زنت، وجاءت بعيسى من ذلك الزنى (حاشاها وحاشاه من ذلك) هو المراد بقولهم لها: { لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيّاً } ويدل لذلك قوله تعالى بعده: { يٰأُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ ٱمْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً } والبغي الزانية كما تقدم. يعنون كان أبواك عفيفين لا يفعلان الفاحشة، فمالك أنت ترتكبينها!! ومما يدل على أن ولد الزنى كالشيء المفترى قوله تعالى: { وَلاَ يَأْتِينَ بِبُهُتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ } [الممتحنة: 12] قال بعض العلماء: معنى قوله تعالى: { يَأْتِينَ بِبُهُتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ } أي ولا يأتين بولد زنى يقصدن إلحاقه برجل ليس أباه، هذا هو الظاهر الذي دل عليه القرآن في معنى الآية. وكل عمل أجاده عامله فقد فراه لغة، ومنه قول الراجز وهو زرارة بن صعب بن دهر:

قد أطعمتني دقلا حوليا مسوساً مدوداً حجريا
قد كنت تفرين به الفريا

يعنى تعملين به العمل العظيم. والظاهر أنه يقصد أنها تأكله أكلاً لما عظيماً.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: { يٰأُخْتَ هَارُونَ } ليس المراد به هارون بن عمران أخا موسى كما يظنه بعض الجهلة. وإنما هو رجل آخر صالح من بني إسرائيل يسمى هارون. والدليل على أنه ليس هارون أخا موسى ما رواه مسلمرحمه الله تعالى في صحيحه: حدثنا أبو بكر بن شيبة، ومحمد بن عبد الله بن نمير، وأبو سعيد الأشج، ومحمد بن المثنى العنزي. واللفظ لابن نمير قالوا: حدثنا ابن إدريس عن أبيه، عن سماك بن حرب، عن علقمة بن وائل، عن المغيرة بن شعبة قال: لما قدمت نجران سألوني فقالوا: إنكم تقرؤون { يٰأُخْتَ هَارُونَ } وموسى قبل عيسى بكذا وكذا. فلما قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم سألته عن ذلك فقال:
"إنهم كانوا يسمون بأنبيائهم والصالحين قبلهم" اهـ، هذا لفظ مسلم في الصحيح. وهو دليل على أنه رجل آخر غير هارون أخي موسى، ومعلوم أن هارون أخا موسى قبل مريم بزمن طويل. وقال ابن حجر في (الكافي الشاف في تخريج أحاديث الكشاف) في قول الزمخشري: إنما عنوا هارون النَّبي ما نصه: لم أجده هكذا إلا عند الثعلبي بغير سند، ورواه الطبري عن السدي قوله وليس بصحيح. فإن عند مسلم والنسائي والترمذي عن المغيرة بن شعبة قال: بعثني النَّبي صلى الله عليه وسلم إلى نجران فقالوا لي: أرأيتم شيئاً يقرؤونه "يا أخت هارون" وبين موسى وعيسى ما شاء الله من السنين، فلم أدر ما أجيبهم؟ فقال لي النَّبي صلى الله عليه وسلم: "هلا أخبرتهم أنهم كانوا يسمون بأسماء أنبيائهم والصالحين من قبلهم" وروى الطبري من طريق ابن سيرين: نبئت أن كعباً قال: إن قوله تعالى { يٰأُخْتَ هَارُونَ } ليس بهارون أخي موسى، فقالت له عائشة: كذبت؟ فقال لها: يا أم المؤمنين، إن كان النَّبي صلى الله عليه وسلم قال فهو أعلم، وإلا فأنا أجد بينهما ستمائة سنة - انتهى كلام ابن حجر.
وقال صاحب الدر المنثور في قوله تعالى { يٰأُخْتَ هَارُونَ }: أخرج ابن أبي شيبة، وأحمد وعبد بن حميد، ومسلم والترمذي والنسائي، وابن المنذر وابن أبي حاتم، وابن حبان والطبراني، وابن مردوية والبيهقي في الدلائل عن المغيرة بن شعبة قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى نجران.. إلى آخر الحديث كما تقدم أنفاً. وبهذا الحديث الصحيح الذي رأيت إخراج هؤلاء الجماعة له، وقد قدمناه بلفظه عند مسلم في صحيحه - تعلم أن قول من قال: إن المراد هارون أخو موسى باطل سواء قيل إنها أخته، أو أن المراد بأنها أخته أنها من ذريته، كما يقال للرجل: يا أخا تميم، والمراد يا أخا بني تميم، لأنه من ذرية تميم. ومن هذا القبيل قوله:
{ وَٱذْكُرْ أَخَا عَادٍ } [الأحقاف: 21]، لأن هوداً إنما قيل له أخو عاد لأنه من ذريته، فهو أخو بني عاد، وهم المراد بعاد في الآية لأن المراد بها القبيلة لا الجد. وإذا حققت أن المراد بهارون في الآية غير هاورن أخي موسى، فاعلم أن بعض العلماء: قال: إن لها أخاً اسمه هارون. وبعضهم يقول: إن هارون المذكور رجل من قومها مشهور بالصلاح، وعلى هذا فالمراد بكونها أخته أنها تشبهه في العبادة والتقوى. وإطلاق اسم الأخ على النظير المشابه معروف في القرآن وفي كلام العرب، فمنه في القرآن قوله تعالى: { وَمَا نُرِيِهِم مِّنْ آيَةٍ إِلاَّ هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا } [الزخرف: 48] الآية، وقوله تعالى: { إِنَّ ٱلْمُبَذِّرِينَ كَانُوۤاْ إِخْوَانَ ٱلشَّيَاطِينِ } [الإسراء: 27] الآية، وقوله تعالى { وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي ٱلْغَيِّ ثُمَّ لاَ يُقْصِرُونَ } [الأعراف: 202]، ومنه في كلام العرب قوله:

وكل أخ يفارقه أخوه لعمر أبيك إلا الفرقدان

فجعل الفرقدين أخوين.
وكثيراً ما تطلق العرب اسم الأخ على الصديق والصاحب، ومن إطلاقه على الصاحب قول القلاخ بن حزن:

أخا الحرب لباسا إليها جلالها وليس بولاج الخوالف أعقلا

فقوله: "أخا الحرب" يعنى صاحبها. ومنه قول الراعي وقيل لأبي ذؤيب:

عشية سعدي لو تراءت لراهب بدومة تجر دونه وحجيج
قلى دينه واهتاج للشوق إنها على النأي إخوان العزاء هيوج

فقوله "إخوان العزاء" يعني أصحاب الصبر.