خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

مَا كَانَ للَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَىٰ أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ
٣٥
-مريم

أضواء البيان في تفسير القرآن

اعلم أولاً أن لفظ "ما كان" يدل على النفي، فتارة يدل ذلك النفي من جهة المعنى على الزجر والردع، كقوله تعالى: { مَا كَانَ لأَهْلِ ٱلْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِّنَ ٱلأَعْرَابِ أَن يَتَخَلَّفُواْ عَن رَّسُولِ ٱللَّهِ } [التوبة: 120] الآية. وتارة يدل على التعجيز، كقوله تعالى: { ءَآللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ أَمَّنْ خَلَقَ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُمْ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَآئِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُواْ شَجَرَهَا } [النمل: 59-60] الآية. وتارة يدل على التنزيه، كقوله هنا { مَا كَانَ للَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ } وقد أعقبه بقوله { سُبْحَانَهُ } أي تنزيهاً له عن اتخاذ الولد وكل ما لا يليق بكماله وجلاله. فقوله { مَا كَانَ للَّهِ } بمعنى ما يصح ولا يتأتى ولا يتصور في حقه جل وعلا أن يتخذ ولداً، سبحانه وتعالى عن ذلك علواً كبيراً. والآية كقوله تعالى: { وَمَا يَنبَغِي لِلرَّحْمَـٰنِ أَن يَتَّخِذَ وَلَداً } [مريم: 92]. وفي هذه الآية الرد البالغ على النصارى الذين زعموا المحال في قولهم "عيسى ابن الله" وما نزه عنه جل وعلا نفسه هنا من الولد المزعوم كذباً كعيسى - نزه عنه نفسه في مواضع أخر، كقوله تعالى { إِنَّمَا ٱلْمَسِيحُ عِيسَى ٱبْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ ٱللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَىٰ مَرْيَمَ } [النساء: 171] إلى قوله { إِنَّمَا ٱللَّهُ إِلَـٰهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ } [النساء: 171] الآية. والآيات الدالة على مثل ذلك كثيرة، كقوله تعالى: { وَقَالُواْ ٱتَّخَذَ ٱلرَّحْمَـٰنُ وَلَداً لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً تَكَادُ ٱلسَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ ٱلأَرْضُ وَتَخِرُّ ٱلْجِبَالُ هَدّاً أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَـٰنِ وَلَداً } [مريم: 88-91] إلى غير ذلك من الآيات كما تقدم مستوفى في سورة "الكهف".
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: { إِذَا قَضَىٰ أَمْراً } أي أراد قضاءه، بدليل قوله:
{ إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَآ أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } [النحل: 40]، وقوله تعالى: { إِنَّمَآ أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ } [يس: 82] وحذف فعل الإرادة لدلالة المقام عليه كثير في القرآن وفي كلام العرب، ومن أمثلته في القرآن قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى ٱلصَّلاةِ } [المائدة: 6] الآية، أي إذا أردتم القيام إليها، وقوله تعالى: { فَإِذَا قَرَأْتَ ٱلْقُرْآنَ فَٱسْتَعِذْ بِٱللَّهِ مِنَ ٱلشَّيْطَانِ ٱلرَّجِيمِ } [النحل: 98] أي إذا أردت قراءة القرآن، كما تقدم مستوفى.
وقوله تعالى في الآية التي نحن بصددها: { مَا كَانَ للَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ } زيدت فيه لفظة "من" قبل المفعول به لتأكيد العموم. وقد تقرر في الأصول أن النكرة في سياق النفي إذا زيدت قبلها لفظة "من" لتوكيد العموم كانت نصاً صريحاً في العموم، وتطرد زيادتها للتوكيد المذكور قبل النكرة في سياق النفي في ثلاثة مواضع: قبل الفاعل كقوله تعالى:
{ مَّآ أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ } [القصص:46]، وقبل المفعول كهذه الآية، وكقوله { وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِيۤ إِلَيْهِ } [الأنبياء:25] الآية: وقبل المبتدأ كقوله { مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَـٰهٍ غَيْرُهُ } [الأعراف:59].