خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَٱذْكُرْ فِي ٱلْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ ٱلْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نَّبِيّاً
٥٤
وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِٱلصَّـلاَةِ وَٱلزَّكَـاةِ وَكَانَ عِندَ رَبِّهِ مَرْضِيّاً
٥٥
-مريم

أضواء البيان في تفسير القرآن

أمر الله جل وعلا نبيه صلى الله عليه وسلم في هذه الآية الكريمة - أن يذكر في الكتاب وهو هذا القرآن العظيم (جده إسماعيل)، وأثنى عليه أعني إسماعيل بأنه كان صادق الوعد وكان رسولاً نبياً. ومما يبين من القرآن شدة صدقه في وعده: أنه وعد أباه بصبره له على ذبحه ثم وفى بهذا الوعد. ومن وفى بوعده في تسليم نفسه للذبح فإن ذلك من أعظم الأدلة على عظيم صدقه في وعده. قال تعالى: { فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ ٱلسَّعْيَ قَالَ يٰبُنَيَّ إِنِّيۤ أَرَىٰ فِي ٱلْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَٱنظُرْ مَاذَا تَرَىٰ قَالَ يٰأَبَتِ ٱفْعَلْ مَا تُؤمَرُ سَتَجِدُنِيۤ إِن شَآءَ ٱللَّهُ مِنَ ٱلصَّابِرِينَ } [الصافات: 102] فهذا وعده. وقد بين تعالى وفاءه به في قوله: { فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ } [الصافات: 103] الآية. والتحقيق أن الذبيح هو إسماعيل. وقد دلت على ذلك آيتان من كتاب الله تعالى دلالة واضحة لا لبس فيها. وسنوضح ذلك إن شاء الله غاية الإيضاح في سورة "الصافات". وثناؤه جل وعلا في هذه الآية الكريمة على نبيه إسماعيل بصدق الوعد يفهم من دليل خطابه - أعني مفهوم مخالفته - أن إخلاف الوعد مذموم. وهذا المفهوم قد جاء مبيناً في مواضع أخر من كتاب الله تعالى. كقوله تعالى: { فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَىٰ يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَآ أَخْلَفُواْ ٱللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ } [التوبة: 77] وقوله { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتاً عِندَ ٱللَّهِ أَن تَقُولُواْ مَا لاَ تَفْعَلُونَ } [الصف: 2-3] إلى غير ذلك من الآيات. وفي الحديث: "آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان" .
وقوله تعالى في هذه الآية: { وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِٱلصَّـلاَةِ وَٱلزَّكَـاةِ }. قد بين في مواضع أخر - أن نبينا صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك الذي أثنى الله به على جده إسماعيل، كقوله تعالى: { وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِٱلصَّلاَةِ وَٱصْطَبِرْ عَلَيْهَا } [طه: 132].. الآية. ومعلوم أنه امتثل هذا الأمر. وكقوله: { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ قُوۤاْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً } [التحريم: 6] الآية. ويدخل في ذلك أمرهم أهليهم بالصلاة والزكاة. إلى غير ذلك من الآيات.
مسألة
اختلف العلماء في لزوم الوفاء بالعهد. فقال بعضهم: يلزم الوفاء به مطلقاً. وقال بعضهم: لا يلزم مطلقا. وقال بعضهم: إن أدخله بالوعد في ورطة لزم الوفاء به، وإلا فلا. ومثاله - ما لو قال له: تزوج. فقال له: ليس عندي ما أصدق به الزوجة. فقال: تزوج والتزم لها الصداق وأنا أدفعه عنك، فتزوج على هذا الأساس، فإنه قد أدخله بوعده في ورطة التزام الصداق. واحتج من قال يلزمه: بأدلة منها آيات من كتاب الله دلت بظواهر عمومها على ذلك وبأحاديث. فالآيات كقوله تعالى:
{ وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ ٱلْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً } [الإسراء: 34]، وقوله تعالى: { يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِٱلْعُقُودِ } [المائدة: 1] الآية، وقوله تعالى: { وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ ٱللَّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلاَ تَنقُضُواْ ٱلأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا } [النحل: 91] الآية، وقوله هنا: { إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ ٱلْوَعْدِ } [مريم: 54] الآية، ونحو ذلك من الآيات والأحاديث كحديث "العدة دين" فجعلها ديناً دليل على لزومها. قال صاحب كشف الخفاء ومزيل الإلباس عما اشتهر من الأحاديث على ألسنة الناس: "العدة دين"، رواه الطبراني في الأوسط والقضاعي وغيرهما عن ابن مسعود بلفظ قال: لا يعد أحدكم صبيه ثم لا ينجز له، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "العدة دين" ورواه أبو نعيم عنه بلفظ: إذا وعد أحدكم صبيه فلينجز له: فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم. وذكر بلفظ "عطية" ورواه البخاري في الأدب المفرد موقوفاً، ورواه الطبراني والديلمي عن علي مرفوعاً بلفظ: العدة دين. ويل لم وعد ثم أخلف. ويل له.." ورواه القضاعي بلفظ الترجمة فقط. والديلمي أيضاً بلفظ: "الوعد بالعدة مثل الدين أو أشد" أي وعد الواعد.وفي لفظ له "عدة المؤمن دين. وعدة المؤمن كالأخذ باليد" . وللطبراني في الأوسط عن قياث بن أشيم الليثي مرفوعاً: "العدة عطية". وللخرائطي في المكارم عن الحسن البصري مرسلاً: "ان امرأة سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً فلم تجد عنده، فقالت: عدني. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن العدة عطية" . وهو في مراسيل أبي داود. وكذا في الصمت لابن أبي الدنيا عن الحسن: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "العدة عطية". وفي رواية لهما عن الحسن أنه قال: سأل رجل النَّبي صلى الله عليه وسلم شيئاً، فقال: "ما عندي ما أعطيك" قال: في المقاصد بعد ذكر الحديث وطرقه: وقد أفردته مع ما يلائمه بجزء - انتهى منه. وقد علم في الجامع الصغير على هذا الحديث من رواية علي عند الديلمي في مسند الفردوس بالضعف.
وقال شارحه المناوي: وفيه دارم بن قبيصة، قال الذهبي: لا يعرف اهـ. ولكن قد مر لك أن طرقه متعددة. وقد روي عن غير علي من الصحابة كما قدمنا روايته عن ابن مسعود، وقياث بن أشيم الكناني الليثي رضي الله عنهما. وسيأتي في هذا المبحث إن شاء الله أحاديث صحيحة، دالة على الوفاء بالوعد.
واحتج من قال: بأن الوعد لا يلزم الوفاء به بالإجماع - على أن من وعد رجلاً بمال إذا فلس الواعد لا يضرب للموعود بالوعد مع الغرماء، ولا يكون مثل ديونهم اللازمة بغير الوعد، حكى الإجماع على هذا ابن عبد البر. كما نقله عنه القرطبي في تفسير هذه الآية الكريمة، وفيه مناقشة. وحجة من فرق بين إدخاله إياه في ورطة بالوعد فيلزم. وبين عدم إدخاله إياه فيها فلا يلزم أنه إذا أدخله في ورطة بالوعد ثم رجع في الوعد وتركه في الورطة التي أدخله فيها. فقد أضر به. وليس للمسلم أن يضر بأخيه، الحديث
"لا ضرر ولا ضرار" .
وقال أبو عبد الله القرطبيرحمه الله في تفسير هذه الآية: قال مالك: إذا سأل الرجل الرجل أن يهب له الهبة فيقول له نعم ثم يبدو له ألا يفعل فما أرى يلزمه قال مالك: ولو كان ذلك في قضاء دين فسأله أن يقضيه عنه فقال نعم، وثم رجال يشهدون عليه فما أحراه أن يلزمه إذا شهد عليه اثنان.
وقال أبو حنيفة وأصحابه، والأوزاعي، والشافعي وسائر الفقهاء إن العدة لا يلزم منها شيء، لأنها منافع لم يقبضها في العارية لأنها طارئة، وفي غير العارية هي أشخاص وأعيان موهوبة لم تقبض فلصاحبها الرجوع فيها. وفي البخاري: { وَٱذْكُرْ فِي ٱلْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ ٱلْوَعْدِ } [مريم: 54] وقضى ابن أشوع بالوعد، وذكر ذلك عن سمرة بن جندب، قال البخاري: ورأيت إسحاق بن إبراهيم يحتج بحديث ابن أشوع اهـ كلام القرطبي. وكلام البخاري الذي ذكر القرطبي بعضه، هو قوله في آخر كتاب "الشهادات": باب من أمر بإنجاز الوعد، وفعله الحسن وذكر في الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد، وقضى ابن الأشوع بالوعد، وذكر ذلك عن سمرة وقال المسور بن مخرمة: سمعت النَّبي صلى الله عليه وسلم، وذكر صهراً له، قال وعدني فوفى لي، قال أبو عبد الله: ورايت إسحاق بن إبراهيم يحتج بحديث ابن أشوع: حدثنا إبراهيم بن حمزة، حدثنا إبراهيم بن سعد عن صالح عن ابن شهاب، عن عبيد الله بن عبد الله أن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أخبره قال أخبرني أبو سفيان: أن هرقل قال له: سألتك ماذا يأمركم. فزعمت أنه أمركم بالصلاة والصدق والعفاف والوفاء بالعهد وأداء الأمانة. قال: وهذه صفة نبي. حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا إسماعيل بن جعفر عن أبي سهيل نافع بن مالك بن أبي عامر عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
"آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا اؤتمن خان، وإذا وعد أخلف" . حدثنا إبراهيم بن موسى، أخبرنا هشام عن ابن جريج قال: أخبرني عمرو بن دينار عن محمد بن علي عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهم قال: لما مات النَّبي صلى الله عليه وسلم جاء أبا بكر مال من قبل العلاء بن الحضرمي فقال أبو بكر: من كان له على النَّبي صلى الله عليه وسلم دين، أو كانت له قبله عدة فليأتنا. قال جابر: فقلت وعدني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعطيني هكذا وهكذا وهكذا، فبسط يديه ثلاث مرات. قال جابر: فعد في يدي خمسمائة، ثم خمسمائة، ثم خمسمائة. حدثنا محمد بن عبد الرحيم، أخبرنا سعيد بن سليمان، حدثنا مروان بن شجاع عن سالم الأفطس عن سعيد بن جبير: قال: سألني يهودي من أهل الحيرة: أي الأجلين قضى موسى؟ قلت: لا أدري حتى أقدم على حبر العرب فأسأله، فقدمت فسألت ابن عباس، قال: قضى أكثرهما وأطيبهما. إن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قال فعل - انتهى من صحيح البخاري. وقوله في ترجمة الباب المذكور "وفعله الحسن" يعني الأمر بإنجاز الوعد. ووجه احتجاجه بآية { إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ ٱلْوَعْدِ } [مريم: 54] أن الثناء عليه بصدق الوعد يفهم منه أن إخلافه مذموم فاعله، فلا يجوز. وابن الأشوع المذكور هو سعيد بن عمرو بن أشوع الهمداني الكوفي، كان قاضي الكوفة في زمان إمارة خالد القصري على العراق، وقد وقع بيان روايته المذكورة عن سمرة بن جنب في تفسير إسحاق بن راهوية وهو إسحاق بن إبراهيم الذي ذكر البخاري أنه رآه يحتج بحديث ابن أشوع، كما قاله ابن حجر في "الفتح". والمراد أنه كان يحتج به في القول بوجوب إنجاز الوعد. وصهر النَّبي صلى الله عليه وسلم الذي أثنى عليه بوفائه له بالوعد هو أبو العاص بن الربيع زوج زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد أسره المسلمون يوم بدر كافراً، وقد وعده برد ابنته زينب إليه وردها إليه. خلافاً لمن زعم أن الصهر المذكور أبو بكر رضي الله عنه. وقد ذكر البخاري في الباب المذكور أربعة أحاديث في كل واحد منها دليل على الوفاء بإنجاز الوعد.
الأول - حديث أبي سفيان بن حرب في قصة هرقل وهو طرف من حديث صحيح مشهور. ووجه الدلالة منه في قوله: "فزعمت أنه أمركم بالصلاة والصدق والعفاف والوفاء بالعهد وأداء الأمانة" فإن جميع المذكورات في هذا الحديث مع الوفاء بالعهد كلها واجبة، وهي الصلاة والصدق والعفاف وأداء الأمانة. وقد ذكر بعد ذلك أن هذه الأمور صفة نبي والاقتداء بالأنبياء واجب.
الثاني - حديث أبي هريرة في آية المنافق. ومحل الدليل منه قوله "وإذا وعد أخلف" فكون إخلاف الوعد من علامات المنافق يدل على أن المسلم لا يجوز له أن يتسم بسمات المنافقين.
الثالث - حديث جابر في قصته مع أبي بكر. ووجه الدلالة منه أن أبا بكر قال: من كان له على النَّبي صلى الله عليه وسلم دين أو كانت له قبله عدة.. الحديث. فجعل العدة كالدين، وأنجز لجابر ما وعده النَّبي صلى الله عليه وسلم من المال: فدل ذلك على الوجوب.
الرابع - حديث ابن عباس في أي الأجلين قضى موسى: ووجه الدلالة منه أنه قضى أطيبهما وأكثرهما، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قال فعل. فعلى المؤمنين الاقتداء بالرسل، وأن يفعلوا إذا قالوا. وفي الاستدلال بهذه الأحاديث مناقشات من المخالفين. ومن أقوى الأدلة في الوفاء بالعهد قوله تعالى:
{ كَبُرَ مَقْتاً عِندَ ٱللَّهِ أَن تَقُولُواْ مَا لاَ تَفْعَلُونَ } [الصف: 3] لأن المقت الكبير من الله على عدم الوفاء بالقول يدل على التحريم الشديد في عدم الوفاء به. وقال ابن حجر في "الفتح" في الكلام على ترجمة الباب المذكورة قال المهلب: إنجاز الوعد مأمور به مندوب إليه عند الجميع وليس بفرض: لاتفاقهم على أن الموعود لا يضارب بما وعد به مع الغرماء اهـ. ونقل الإجماع في ذلك مردود، فإن الخلاف مشهور لكن القائل به قليل: وقال ابن عبد البر وابن العربي أجل من قال به عمر بن العزيز - انتهى محل الغرض من كلام الحافظ في الفتح، وقال أيضاً وخرج بعضهم الخلاف في هذه المسألة على الخلاف في الهبة، هل تملك بالقبض أو قبله.
فإذا علمت أقوال أهل العلم في هذه المسألة. وما استدل به كل فريق منهم - فاعلم أن الذي يظهر لي في هذه المسألة والله تعالى أعلم: أن إخلاف الوعد لا يجوز، لكونه من علامات المنافقين، ولأن الله يقول: { كَبُرَ مَقْتاً عِندَ ٱللَّهِ أَن تَقُولُواْ مَا لاَ تَفْعَلُونَ } وظاهر عمومه يشمل إخلاف الوعد ولكن الواعد إذا امتنع من إنجاز الوعد لا يحكم عليه به ولا يلزم به جبراً. بل يؤمر به ولا يجبرعليه. لأن أكثر علماء الأمة على أنه لا يجبر على الوفاء به لأنه وعد بمعروف محض. والعلم عند الله تعالى.