خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

أُولَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمَ ٱللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ ٱلنَّبِيِّيْنَ مِن ذُرِّيَّةِ ءَادَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَٱجْتَبَيْنَآ إِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ آيَاتُ ٱلرَّحْمَـٰنِ خَرُّواْ سُجَّداً وَبُكِيّاً
٥٨
-مريم

أضواء البيان في تفسير القرآن

الإشارة في قوله { أُولَـٰئِكَ } راجعة إلى الأنبياء المذكورين في هذه السورة الكريمة. وقد بين الله هنا أنه أنعم عليهم واجتباهم وهداهم. وزاد على هذا في سورة "النساء" بيان جميع من أنعم عليهم من غير الأنبياء في قوله: { وَمَن يُطِعِ ٱللَّهَ وَٱلرَّسُولَ فَأُوْلَـٰئِكَ مَعَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمَ ٱللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ ٱلنَّبِيِّينَ وَٱلصِّدِّيقِينَ وَٱلشُّهَدَآءِ وَٱلصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَـٰئِكَ رَفِيقاً } [النساء: 69]. وبين في سورة الفاتحة: أن صراط الذين أنعم عليهم غير صراط المغضوب عليهم ولا الضالين في قوله: { ٱهْدِنَا ٱلصّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ } [الفاتحة: 6-7]. وقال ابن كثيررحمه الله في تفسير هذه الآية الكريمة: قال السدي وابن جرير رحمهما الله: فالذي عنى به من ذرية آدم: "إدريس". والذي عنى به من ذرية من حملنا مع نوح: "إبراهيم". والذي عنى به من ذرية إبراهيم: "إسحاق ويعقوب وإسماعيل". والذي عنى به من ذرية إسرائيل: "موسى وهارون وزكريا ويحيى وعيسى ابن مريم". قال ابن جرير: ولذلك فرق أنسابهم وإن كان يجمع جميعهم آدم، لأن فيهم من ليس من ولد من كان مع نوح في السفينة وهو إدريس فإنه جد نوح.
قلت: هذا هو الأظهر أن إدريس في عمود نسب نوح عليهما وعلى نبينا الصلاة والسلام. وقد قيل: إنه من أنبياء بني إسرائيل أخذاً من حديث الإسراء حيث قال في سلامه على النَّبي صلى الله عليه وسلم: مرحباً بالنَّبي الصالح، والأخ الصالح، ولم يقل والولد الصالح، كما قال آدم وإبراهيم عليهما وعلى نبينا الصلاة السلام - انتهى الغرض من كلام ابن كثيررحمه الله تعالى.
وقال ابن كثير أيضاً في تفسير هذه الآية الكريمة: يقول تعالى هؤلاء النَّبيون، وليس المراد المذكورين في هذه السورة فقط. بل جنس الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. استطرد من ذكر الأشخاص إلى الجنس، إلى أن قال في آخر كلامه: ومما يؤيد أن المراد بهذه الآية جنس الأنبياء أنها كقوله تعالى في سورة "الأنعام":
{ وَتِلْكَ حُجَّتُنَآ آتَيْنَاهَآ إِبْرَاهِيمَ عَلَىٰ قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَآءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ } [الأنعام: 83] { وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنَا وَنُوحاً هَدَيْنَا مِن قَبْلُ وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ } [الأنعام: 84] - إلى قوله - { أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ هَدَى ٱللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ ٱقْتَدِهْ } [الأنعام: 90] - اهـ. وقد قال تعالى في صفة هؤلاء المذكورين في "الأنعام": { وَٱجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } [الأنعام: 87]. كما قال في صفة هؤلاء المذكورين في سورة "مريم" { وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَٱجْتَبَيْنَآ }.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: { إِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ آيَاتُ ٱلرَّحْمَـٰنِ خَرُّواْ سُجَّداً وَبُكِيّاً } بين فيه أن هؤلاء الأنبياء المذكورين إذا تتلى عليهم آيات ربهم بكوا وسجدوا. وأشار إلى هذا المعنى في مواضع أخر بالنسبة إلى المؤمنين لا خصوص الأنبياء، كقوله تعالى:
{ قُلْ آمِنُواْ بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُوۤاْ إِنَّ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّداً وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَآ إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً } [الإسراء: 107-109]، وقوله: { وَإِذَا سَمِعُواْ مَآ أُنزِلَ إِلَى ٱلرَّسُولِ تَرَىۤ أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ ٱلدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ ٱلْحَقِّ } [المائدة: 83]، وقوله تعالى: { إِنَّمَا ٱلْمُؤْمِنُونَ ٱلَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ ٱللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً } [الأنفال: 2]، وقوله تعالى: { ٱللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ ٱلْحَدِيثِ كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ ٱلَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَىٰ ذِكْرِ ٱللَّهِ } [الزمر: 23]. فكل هذه الآيات فيها الدلالة على أنهم إذا سمعوا آيات ربهم تتلى تأثروا تأثراً عظيماً، يحصل منه لبعضهم البكاء والسجود. ولبعضهم قشعريرة الجلد ولين القلوب والجلود، ونحو ذلك.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: { وَبُكِيّاً } جمع باك. وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قرأ هذه الآية من سورة "مريم" فسجد وقال: هذا السجود، فأين البكى؟ يريد البكاء. وهذا الموضع من عزائم السجود بلا خلاف بين العلماء في ذلك.